[المسألة الأولى: الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه]

[المسألة الأولى] :

أنَّ الإيمان لفظٌ مُسْتَعْمَلٌ في اللغة قبل ورود الشرع.

والألفاظ لها في استعمالها قبل ورود الشرع حالان:

- الأول: الحال العُرْفِي.

- والثاني: الحال الأصلي.

والحال العرفي جعلناه الأول لِقُرْبِهِ.

والحال الثاني الأصلي جعلناه الثاني لأنه بعيد؛ يعني من جهة العموم.

وهذا هو الذي يسميه طائفة من العلماء يسمونه الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية، فإنَّ الألفاظ المُستعملة لها حقائق لغوية حقيقة ليست مجاز، ولها حقائق عرفية يعني في استعمال أهل العرف لها.

مثال ذلك لفظ الدّابَّةْ، فإنه في اللغة الأصلية- في لغة العرب في الاستعمال العام- الدابة كل ما يَدُبُّ على الأرض سواءٌ أكان يَدُبُّ على بطنه أم يَدُبُّ على رجلين أم يَدُبُّ على أربع، ودلّ على هذا قول الله - عز وجل - {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} يعني من الدواب {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45] .

ثم خُصَّتْ في الاستعمال العُرْفي بأنَّ الدابة هي ذات الأربع التي تُرْكَبُ في الاستعمال، يعني يركبها الناس أو يحرثون عليها أو إلى آخره، فهذه تسمى حقيقة عرفية، والمعنى الأول يسمى حقيقة لغوية.

فإذاً صارت الحقيقة العرفية أخص من الحقيقة اللغوية.

اللغة دائماً تكون عامة، ثُمَّ الناس يُقَيِّدُونَ المعنى اللغوي ببعض ما يحتاجون إليه في الاستعمال، فتكون الحقيقة العرفية دائماً أضيق من الحقيقة اللغوية.

ثُمَّ لمَّا أَتَى الشرع ظهرت ما سَمَّاهُ العلماء الحقيقة الشرعية، أو ما سَمَّاهُ طائفة ممن ألَّفَ في فقه اللغة بالأسباب الإسلامية.

الأسباب الإسلامية يعني ألفاظ جُعِلَ لها معانٍ لأجل سبب مجيء الإسلام. (?)

من الأمثلة على ذلك لفظ السجود:

ففي اللغة لفظ السجود للخضوع والذل بحركة البدن.

وفي العُرْفْ أنَّ السجود يكون بالانحناء إمَّا بركوعٍ أو بما نسميه السجود؛ يعني وضع الجبهة على الأرض.

وفي الشرع السجود هو من وضع جبهته وأنفه على الأرض.

قال - عز وجل - لبني إسرائيل {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة:58] يعني راكعين؛ لأنَّ السجود العرفي يدخل فيه الركوع.

أمَّا في شريعة الإسلام صارت الحقيقة الشرعية للسجود هي وضع الجبهة على الأرض.

هذه المقدمة مهمة في تأصيل هذه الحقائق الثلاث على مسألة الإيمان.

اللغة مرتبطة بالاشتقاق، اللغة لها اشتقاق يجمع الكلام الذي حروفه واحدة:

فالإيمان والأَمْنْ والأَمان هذه كلماتها واحدة، (أَمْنٌ وأمان وإيمان) فاشتقاقها من حيث الأصل واحد، ولهذا الإيمان يرجع إلى الأمْنْ في اللغة، والأمان يرجع إلى الأمْنْ وإلى الإيمان.

فهذه الألفاظ في أصل اللغة اشتقاقها واحد وذلك من الأمن الذي هو المصدر.

ما علاقة الإيمان في اللغة بالأمن يعني في دلالة اللغة؟

لأنه من آمَنَ فقد أمِنَ، آمَنَ بالشيء أمِنَ على نفسه، آمَنْ يعني صدَّقْ استسلم أطاع إلى آخره فإنه يعتبر مُسْتسلما؛ يعني يُعْتَبَرْ أَمِنَ عدوه، لو آمَنَ بما قال عدوه صَدَّقَهُ فإنه يكون أَمِنَ غائلته.

إذا تبين هذا فهذا الأصل اللغوي الذي هو مجيء الاشتقاق من كلمة واحدة يدلُّكَ على أنَّ أصْلْ كلمة الإيمان في اللغة من حيث الاشتقاق من الأمن، ثُمَّ في الاستعمال العرفي -عُرْف العرب- (?) خَصَّتْ ذلك المعنى إلى أنَّ الإيمان هو التصديق، التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يَأْمَنُ معه.

وهذا جاء في القرآن يعني في استعمال المعنى اللغوي للإيمان في مواضع:

كقوله - عز وجل - في قصة يوسف مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] لاحظ الأَمْنْ يعني بِمُصَدِّقٍ لنا التصديق الجازم الذي يتبعه عمل أنَّكَ لا تؤاخنا بما فعلنا، قال {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:18] ، فما أعطاهم الأمْنْ.

كذلك قال - عز وجل - في قصة إبراهيم عليه السلام {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] {آمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني صَدَّقَهُ تصديقاً جازماً تبعه عملٌ له بحيث يأمن من العذاب الذي توعد به إبراهيم قومَه.

كذلك في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في سورة براءة قال {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [براءة:61] {وَيُؤْمِنُ} أي يُصَدِّقُهُمْ فيما يقولون فيَأْمنون معه عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم.

إذاً فالإيمان في اللغة اُستُعْمِلَ ويُرادُ به التصديق الجازم الذي يكون معه عمل يأمن معه؛ لأنه فيه صلة دائماً بين المعنى العرفي، الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015