ج/ الكبائر لها حد -بمعنى لها تعريف- وذكرنا تعريفها عدة مرات ويأتينا إن شاء الله تعالى في موضعه من شرح الطحاوية بتفصيل.

فالحكم على الغناء بأنَّهُ من الكبائر هذا فيه نظر؛ لأنَّ الغناء التّغني بالصوت.

والتغني بالصوت قد يكون مُشْتَمِلاً على كلامٍ قبيح كفر أو نفاق أو دونه من التشويق بالنساء أو باستباحة المحرمات أو نحو ذلك، وقد يكون الكلام لا يشتمل على ذلك، ثُمَّ هو قد يكون مُصَاحَبَاً بمعازف وقد لا يكون مصاحبا بمعازف.

فقول القائل أصبح يتاجر فيه كالغناء أنَّ هذا من الكبائر لأ، يختلف الحال فيه.

لهذا من جهة إثبات الكبيرة لابد فيه من تفصيل، هل الغناء كله كبيرة؟

ليس بصحيح -يعني بهذا الإطلاق-، طالب العلم لابد أن يدقق في ألفاظه، إذا قال أحد الغناء من الكبائر، ليس صحيحاً هذا الكلام، فلابد من التفصيل فيه وهذا يرتبط بتعريف الكبيرة.

المسألة الثانية: المعازف من حيث هي والغناء المشتمل على المعازف لم يُجمِعْ العلماء على تحريمه، فمن أهل العلم -وهم نوادر- من قالوا بإباحته، وجمهور أهل العلم كما دَلَّتْ عليه الأدلة بالكتاب والسنة وهي كثيرة جداً قالوا بحرمة ذلك، وهذا هو الحق الواضح الذي لا يجوز العدول عنه؛ لكن معرفة خلاف طائفة من أهل العلم من فقهاء المدينة في زمن الإمام مالك ومن بعدهم مثل ابن حزم والسمعاني وطائفة من الناس من قالوا بإباحة السماع واستعمال المعازف فهو خلافٌ في المسألة.

ولا تَكْفِيرَ إلا بما أَجْمَعَ العلماء على تحريمه.

والمسألة إذا أجمع العلماء على تحريمها من قال بخلافها فالقول بخلافها كفر، ثم تكفير المعين يحتاج أيضاً إلى بيان.

المسائل التي أجمع العلماء على حرمتها المخالِفْ فيها يختلف؛ لأنَّ المسألة قد تكون من المسائل التي يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام أنها محرمة، مثل الخمر، مثل الزنا، الربا المتفق على تحريمه ونحو ذلك، هذا ما يحتاج، ينشأ الناشئ بين المسلمين وهو يعلم أنَّ هذه الأمور محرّمة باتفاق أهل العلم.

لكن ثَمَّ مسائل خفية تحتاج إلى استدلال، فمثلاً لو قيلَ إنّ المعازف مُجْمَعْ على تحريمها فإنَّ هذا الإجماع هم لم يجمع على تحريمها، لكن هذا الإجماع غير معروف لم يكن معروفاً عند الناس، لو قال قائل ذلك أو يكون في بلد معروف نشأ الناشئ وأهل الفتوى في بلده على أن الغناء محرم فهنا لا يقال بالتكفير لأنَّ هذا مما يخرج عن كونه من الضروريات، يعني العلم به من الضروريات.

فإذاً مسألة التكفير مسألة خطيرة ومهمة في أن يعلم طالب العلم حدوده، فالمسائل المحرمات لا تكفير إلا بما أُجمِعَ عليه. (?)

: [[الشريط السابع والعشرون]] :

ثُمَّ هنا ما أَجْمَعَ أهل العلم عليه على قسمين:

- منه ما يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام، يعني لا يحتاج فيه العالم إلى بيان الأدلة.

- ومنه ما فيه خفاء يحتاج فيه إلى بيان الأدلة.

حتى غير المسائل هذه مثل مسائل السحر.

السحر لاشك أنه من كبائر الذنوب؛ بل لا يكون السحر إلا بشرك بالله - عز وجل -، لكن من أصناف السّحر ومن أحوال السَّحَرَةْ ما قد يخفى في بعض الأزمنة، فيحتاج إلى بيان وإيضاح.

فالمسألة في نفسها قد تكون في زمان مما يُعْلَمُ بالاضطرار -يعني الدليل فيها لا يحتاج إلى إقامة-؛ لأنَّ كل الناس يعلمون هذا، وقد يكون في زمان أو مكان يخفى الدليل على طائفة فيُحتاجُ في الحكم على المُعَيَّن إلى بيان، وإن كانت عند طائفة أخرى مما يُعْلَمُ بالاضطرار.

العلماء يذكرون مثال ذلك مثلاً من قال الزنا غير مُحَرَّمْ وهو ممن نشأ بباديةٍ بعيدة عن دار الإسلام، ومثله يجهل، مثل ما حَصَلَ في زماننا الحاضر في بعض من يسكنون في بعض الأماكن يقولون ما نعلم أنه محرم، يفعل الفاعل الزنا وما يعلم أنه حرام مع أنَّ حُرْمَةْ الزنا مما يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام.

فالمقصود من هذا، أنَّ المسائل التي يقال فيها هذا مما يُعْلَمُ بالاضطرار من دين الإسلام، نعني بها ما لا يُحْتَاجُ معه إلى إقامة دليل؛ لأنَّه ينشأ الناشئ وهو يعرف هذا ولا يعرف غيره من دين الإسلام.

هذه المسائل تختلف باختلاف الزمان والمكان فلهذا يحتاج من يريد بحث هذه المسائل إلى استفصال.

آخر السؤال يقول: نقول إنهم لا يؤمنون بتحريمها واستخفوا بها فنحكم بِرِدَّتِهِمْ عن الإسلام.

ليس كذلك، من فَعَلَ الكبيرة مُسْتَخِفّا بها لا يعني ذلك أنه مرتد؛ بل الذين يفعلون الكبائر منهم:

1- من يفعل الكبيرة لشهوةٍ غلبت عليه، شهوة طارئة، هو مؤمن صالح لكن غَلَبَ عليه أَمْرْ فَأَخَذَ مالاً من غَيْرِ حِلِّهِ، سرق لشهوة غلبت عليه ثُمَّ رَجَعْ، فهذا نقول فيه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

أو رأى امرأة أو خَلَا بامرأة ثم فعل معها الكبيرة عن غَلَبَةِ شهوة، فهذا لا يُخْرِجُهُ ما فَعَلْ عن كونه مؤمناً إذا تاب وأناب، فَغَلَبَةْ الشهوة تبقي اسم الإيمان إذا تاب وأناب.

2- ومنهم الذي يخرج معه المؤمن من الإيمان إلى الإسلام وهو إذا استخف بالكبيرة.

يعني تَهَاوَنَ بها وهو يعلم أنها كبيرة ويعلم أنه عاصي، أقَامَ عليها واسْتَمَرَّ على فعل الكبيرة فهذا يخرج من اسم الإيمان إلى اسم الإسلام؛ لأنَّ الإيمان الحق -الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر- الإيمان الحق بهذه، الإيمان الكامل لا يجتمع مع صاحبه في مداومة الكبائر.

وفي هذا يروى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند (أنَّ العبد إذا فعل المعصية ارتفع عنه الإيمان فصار على رأسه كالظلة فإذا تركه عاد إليه) (?) ، وهذا الحديث في إسناده ضعف؛ لكن يستدل به أهل العلم على أصلهم من أنَّ المؤمن حال مُوَاقَعَتِهِ للكبيرة التي كانت عن غلبة شهوة لا استمرار واستخفاف فإنه يبقى عليه اسم الإيمان؛ لكن يَنْتَزِعُ منه ما دام فاعلاً لهذا المنكر، فإذا ترك هذه الكبيرة وأناب إلى الله - عز وجل -، رجع فيقال مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

لكن المصر على الربا المصر على الزنا المصر على شرب الخمر لا يُخْرِجُهُ أهل السنة من اسم الإسلام ويجعلونه مرتداً، وكذلك أصحاب المعازف والغناء المحرم وبيع مثل هذه وآلات اللهو ونحو ذلك إذا كان مُمَارِسَاً لها وهو يعتقد حرمة ذلك فيما أُجْمِعَ عليه فإنه يخرج من الإيمان إذا كان مداوماً عليها إلى الإسلام؛ لأنَّ الإسلام هو العمل الظاهر إذا كان جاء بأمور الإسلام.

وهذه فيها مزيد تفاصيل تأتي في موضعها إن شاء الله في شرح الطحاوية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015