[المسألة العاشرة] :
أنَّ تكفير المعين يُشْتَرَطُ فيه إقامة الحجة.
وإقامة الحجة شرطٌ في أمرين:
الأول: في العذاب الأُخْرَوِيْ؛ يعني في استحقاق العذاب الأخروي.
والثاني: في استحقاق الحكم الدنيوي.
والدليل على ذلك قول الله - عز وجل - {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] ، وكذلك قوله {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} فَشَرَطَ لِتَوْلِيَةِ المُشَاقْ ما تولى وجَعْلِ جهنمَ له وساءت مصيراً أن يكون تَبَيَّنَ له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] ، وكذلك قوله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] ، وكذلك قوله - عز وجل - {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ، وكذلك قوله - عز وجل - {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:175-176] ، فهذه كلّها فيها اشتراط العلم وإقامة الحجة، وكُلُّ رسولٍ بُعِثَ لإقامة الحجة على العباد.
إذا تبين هذا فإنَّ إقامة الحجة تحتاج:
- إلى مقيم.
- وإلى صفة.
@ أما المقيم: فهو العالِمُ بِمَعْنَى الحُجَّةْ، العالِمُ بحال الشخص واعتقاده.
@ وأما صفة الحجة: فهي أن تكون حُجَّةً رساليّةً بَيَّنَةً، قال - عز وجل - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] .
واشْتَرَطَ أهل العلم أن تكون الحجة رسالية؛ يعني أن تكون قول الله - عز وجل - وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
يعني أما إن كانت عقليةً وليس المَأْخَذُ العَقْلِيُّ من النص فإنّه لا يُكتفى به في إقامة الحجة؛ بل لابد أن تكون الحجة رسالية.
لهذا يُعَبِّرْ ابن تيمية ويُعَبِّرْ ابن حزم وجَمْعٌ بِأَنْ تكون الحجة رسالية؛ والسبب لأنها يَرْجِعُ فيها مَنْ لم يأخذ بالحجة إلى رَدِّ ما جاء من الله - عز وجل - ومن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما فهم الحجة فإنه لا يُشترَطُ في الأصْلْ. (?)
ومعنى عدم اشتراطه: أننا نقول ليس كل من كَفَرْ فإنه كَفَرَ عن عناد، بل ربما كَفَرَ بعد إبلاغه الحجة وإيضاحها له لأنَّ عنده مانع من هوى أو ضلال مَنَعَهُ من فهم الحجة، قال - عز وجل - {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (?) ، والآيات في هذا المعنى متعددة.
ما معنى فهم الحجة؟
يعني أن يَفْهَمَ وجه الاحتجاج بِقُوَّةِ هذه الحجة على شبهته.
فهوعِنْدَهُ شُبْهَة في عبادة غير الله، عنده شُبْهَة في استحلاله لما حُرِّمَ مما أُجْمِعَ على تحريمه؛ لكن يُبلَّغُ بالحجة الواضحة بلسانه ليفهم معنى هذه الحجة.
فإن بَقِيَ أَنَّهُ لم يفهم كون هذه الحجة رَاجِحَة على حجته فإنَّ هذا لا يُشْتَرَطْ-يعني في الأصل-؛ لكن في بعض المسائل جُعِلَ عدم فهم الحجة -يعني كون الحجة راجحة على ما عنده من الحُجَجْ- جُعِلَ مانعاً من التكفير كما في بعض مسائل الصفات.
يعني أنَّ أهل السنة والجماعة من حيث التأصيل اشترطوا إقامة الحجة ولم يشترطوا فهم الحجة في الأصل؛ لكن في مسائل اشترطوا فيها فهم الحجة.
وهذا الذي يَعْلَمُهُ من يقيم الحجة وهو العالم الرّاسخ في علمه الذي يعلم حدود ما أنزل الله - عز وجل - على رسوله صلى الله عليه وسلم.