[المسألة الثانية] :
القَدَرْ مرّ بك تعريفه.
وأما القضاء فإنه في اللغة بمعنى إنهاء الشيء، وقد يكون الإنهاء إنهاء عمل وقد يكون إنهاء خبر، ولهذا جاء في القرآن تنوّع معنى القضاء إلى عدة معاني:
1 - المعنى الأول أنَّ القضاء يكون بمعنى الإنهاء كما قال سبحانه {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] ، وقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ} [سبإ:14] .
2 - المعنى الثاني أنَّ القضاء بمعنى الوحي وذلك إذا عدي بـ (إلى) ، قضينا إلى، قَضَى إلى، يكون إنهاء الخبر بالوحي كما قال - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4] يعني أوحينا إلى بني إسرائيل وأعلمناهم وأخبرناهم، وقال أيضا - عز وجل - {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر:66] {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ} يعني أوحينا إليه وأنهينا إليه ذلك الخبر بالوحي.
3 - المعنى الثالث أنَّ القضاء يكون بمعنى القَدَرْ كما قال - عز وجل - {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] ، يعني قَدَّرَ ذلك وخلقه وفعله، وكما في قوله أيضا {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} [سبإ:14] ، على أنَّهُ بمعنى القَدَرْ؛ لأنَّ الإنهاء يدخل في القَدَرْ.
ولهذا المعنى قال جمع من أهل العلم إنَّ القضاء والقَدَرْ بمعنى واحد؛ لأجل أنهم لحظوا أنَّ معنى القضاء داخل في معنى القَدَرْ، وأنَّ القدر والقضاء لا فرق بينهما.
ممن ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم منهم ابن الجوزي وكثير من العلماء السابقين.
* وأما فيما دَلَّتْ عليه نصوص الكتاب والسنة فإنَّ القَدَرْ غير القضاء، وهذه الغيرية بمعنى أنَّ القَدَرْ أعم من القضاء، والقضاء قد يكون بعض مراتب القَدَرْ من حيث الإطلاق.
ولهذا قال بعض أهل العلم في تبيين ذلك: إنَّ القضاء هو القَدَرْ إذا وقع، وقبل وقوع المقدر لا يسمى قضاء.
ذلك لأنَّ كلمة قضاء -كما رأيت في معناها في اللغة وفي استعمالات القرآن أنها بمعنى الإنهاء إنهاء الشيء إنهاء الخلق إلى آخره.
والقَدَرْ إذا وقع وانتهى صار قضاءً، قُضِيَ {قُضِيَ الأَمْرُ الذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] ، يعني انتهى {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] ، يعني أحكم بما شئت وأنهى الأمر على أي وجه شئت.
فإذاً يكون القضاء هو إنهاء القَدَرْ، وهذا يتبيّن بأنَّ مراتب القَدَرْ الأربعة التي سيأتي بيانها منها مرتبتان سابقتان وهي مرتبة العلم والكتابة، ومنها مرتبتان -وهي عموم المشيئة وعموم الخلق لله - عز وجل -- هاتان المرتبتان مقارنتان لوقوع المقدر.
ولهذا إذا نُظِرَ لوقوع المُقَدَّرْ من جهة عموم الخلق وعموم المشيئة فإنَّهُ حينئذٍ يكون قضاءً لله - عز وجل - لهذا الشيء.
قضى الله - عز وجل - الأمر على كذا وكذا بمعنى خلقه وشاءه.
ولهذا نظر من نَظَرْ في أنَّ القضاء داخل في القَدَرْ فلذلك قالوا القضاء والقدر بمعنى واحد.
لكن على التحقيق ليس القضاء والقدر بمعنى واحد، وإنما القضاء هو وقوع المُقَدَّرْ، فإذا وقع القَدَرْ السابق وانتهى سُمِّيَ قَضَاءً، قُضِيَ وانتهى وهو المُقَدَّرْ، ولاشك أنَّ الذي يقع مقدر ويكون قضاء.
ولهذا نقول القضاء، والقَدَرْ بينهما فرق فإن:
- القَدَرْ أعم، والقضاء أخص.
- والقَدَرْ سابق، والقضاء لاحق.
- والقَدَرْ فيه عدة صفات لله - عز وجل -: العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأما القضاء قضاء الله - عز وجل - للشيء في نفسه يدل على خلقه سبحانه وتعالى للشيء ومشيئته له.
لهذا على الصحيح أنَّ القضاء والقَدَرْ ليسا بمعنى واحد ولا يتواردان، يعني ما يُسْتَعْمَل أحدهما بمعنى الآخر؛ بل القَدَرْ أعم.