[المسالة الثانية] :
أن هذه الجملة نأخذ منها قاعدة قَعَّدها أئمة أهل السنة والجماعة وهي أنَّ النفي إذا كان في الكتاب والسنة فإنه لا يُراد به حقيقة النفي، وإنما يُراد به كمال ضده.
يعني أنّّ كل نَفْيٍ نُفِيَ عن الله - عز وجل -.
أنَّ كل نَفْيٍ أُضِيفَ لله - عز وجل - فنُفِيَ عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله في القرآن أو في السنة، فإن المقصود منه إثبات كمال الضِّد.
لأنَّ النفي المحض ليس بكمال، فقد يُنفَى عن الشيء الاتصاف بالصفة؛ لأنه ليس بأهلٍ لها، فيقال: فلان ليس بعالم. لأنّه ليس أهلاً لأن يتّصف بذلك، ويقال: فلان ليس بظالم لأنه ليس بقادر أصلا، كما قال الشاعر في وصف قوم يذمهم:
قُبَيِّلَةٌ لا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ ****** وَلاَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْذَلِ
لأنهم لا يستطيعون أصلا أنْ يظلموا أو أن يعتدوا لعجزهم عن ذلك؛ لأن العرب كانت تفتخر بأنّ من لم يَظلِمْ يُظلَم كقول الشاعر وهو زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ****** ومن لا يظلم الناس يظلم
فتقرر أنَّ النفي المحض ليس بكمال، ولذلك نقرر القاعدة: أنّ النفي في الكتاب والسنة إنما هو لإثبات كمال الضد.
وأخذنا ذلك من قوله - عز وجل - {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، فصار النفي نفي العجز عنه سبحانه فيه إثبات كمال علمه وقدرته.
وهذا خُذْهُ مطّرِداً في مثله قوله - عز وجل - {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] ، وفي قوله - عز وجل - في أول آية الكرسي {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ} [البقرة:255] ، لكمال حياته وكمال قيوميته سبحانه، {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} فيه إثبات كمال قدرته - عز وجل - وكمال قوته، وفي قوله {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] لكمال عدله سبحانه، وفي قوله {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] وذلك لكمال اتصافه بصفاته، وفي قوله {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] لكمال استغنائه سبحانه.
ففي كل نفيٍ جاء في الكتاب والسنة تأخذ إثبات الصفة التي هي بضد ذلك النفي.
ولهذا تُثْبَتُ بعض الصفات وتُثبتُ بعض الأسماء عند طائفة من أهل العلم بألفاظ لم ترد صراحة وأخذوها من النفي الذي جاء في الكتاب والسنة.