فقال: ننفي هذه ونبقي كلام الله - عز وجل - غير مخلوق وأنه على حقيقته؛ ولكن نقول هو معنى دون لفظ، دون سماع.
إذا تبين ذلك فنأخذ من هذا تفصيل وهو: أنَّ دِلالة الكلام في اللغة على اللفظ والمعنى فيها مذاهب:
1 - مذهب أهل السنة والجماعة وأهل الحديث والأثر:
أنَّ الكلام والقول إذا أُطلق، يعني إذا قيل الكلام كلام فلان،قول فلان،قول الله - عز وجل - فإنه يراد به شيئان معاً دون تَفْرِيقً بين والواحد والآخر؛ يراد به اللفظ والمعنى جميعاً.
2 - مذهب المعتزلة:
وهو أنَّ الكلام هو في المعنى وفي اللفظ مجاز.
3 - مذهب الكلابية:
وهو أنَّ الكلام للمعاني ولكن الحديث إخْرَاجُهُ هذا دليلٌ عنه.
واستدلوا على هذا بقول الأخطل في الشعر المشهور المعروف عندهم في الاستدلال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
والكلام على هذا البيت ورد الإحتجاج به إلى آخره مرّ معنا في الواسطية فنحيلكم عليها؛ لأنه معروف مشهور كررناه أكثر من مرة.
نرجع على أصل المسألة وهو أنَّ الكلابية والأشاعرة قالوا إنَّ الكلام معنى.
كلام الله - عز وجل - معنى، ألقاه في روع جبريل.
وهذا لأجل أنهم أصَّلُوا تأصيلات، ومنها أنَّ الكلام لا يدل على الإخراج وإنما يدل على ما قام في النفس، كما استدلوا بهذا البيت.
لهذا ذكرت لكم في أول الكلام تعريف كَلَّمَ وكَلَمَ وهذه المادة واشتقاقها ليبطل معه قول من قال إنَّ الكلام معنى، فإنَّ اللغة دَلَّت على أَنَّ الكلام لابد أن يكون لفظاً ومعنى.
وحتى كلمة لفظ تدل على شيء ملفوظ مفرد.
وما أحسن قول المعري وإن كان ليس مجال احتجاج قال:
من الناس من لفظه لؤلؤٌ يُبَادِرُهُ اللَّقْطُ إذ يُلْفَظُ
وبعضهم قوله كالحصى يقال فيُلْغَى ولا يُحْفَظُ
يعني (من الناس من لفظه لؤلؤ) اللفظ لابد أن يُلْفَظْ، يُخْرَجْ، فكيف يكون الكلام والقول في الداخل دون الخارج؟
وكيف يكون المعنى يُدَلْ عليه في الإنسان بلا لفظ؟
وإذا كان ثَمَّ لفظ فإذاً ثَمَّ معنى، واللفظ لابد أن يُلْفَظْ ويُخْرَجْ.
فدل ذلك على أَنَّ قولهم بأَنَّ الكلام معنىً وأَنَّ هذا هو الأصل فيه، هذا لاشك أنه مُعَارَضٌ باللغة في تأصيلاتها أو اشتقاقاتها وأيضا مُعَارَضٌ بالنصوص التي سقنا لك بعضا منها.
الكلابية ورثهم أبو الحسن الأشعري والماتُرِيدي في الكلام في هذه المسألة:
- تارة يعبرون عنه بقولهم الكلام صفة نفسية.
- وتارة يعبرون عنه بأن كلام الله - عز وجل - قديم؛ يعني قبل أن يخلق الخلق، قبل أن يوجد شيء، تَكَلَّمَ بكلام قديم وانتهى.
- تارة يعبرون عنه بأنه معنى قائم بالنفس.
- وتارة يعبرون عنه بأنه عبارة، يعني القرآن عبارة عن كلام الله؛ يعني عُبِّر به عن كلام الله.
إذا تبين لك ذلك، فحاصل معتقد هذه الطوائف -الكلابية الأشاعرة والماتريدية- أنّ القرآن قديم كلام الله - عز وجل - قديم.
يعني تَكَلَّمَ الله - عز وجل - به في الأزل ثم لما أراد إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم قام ما تكلم به في الأزل به معنى فألقاه في رُوعِ جبريل فنزل به جبريل وعبّر عنه، وإلاّ فكلام الله عندهم ليس بالعربية وليس بالسريانية وليس إلى آخره لتنزهه عندهم اللغات.
إذا تبين ذلك، فمن أحسن الردود عليهم ما استشكله الآمدي.
والآمدي من حذاق الأشاعرة المعروفين ومن الأذكياء.
قال: إني نظرت في هذا القول وهو أنَّ كلام الله قديم، وأنَّ القرآن قديم، وأنه حين أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم إنما أُوحِيَ بالعبارة وبما أُلْقِيَ في نفس جبريل، فأشكل علي أنَّ القرآن فيه آيات كثيرة فيها التعبير عنه بلفظ الماضي {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ، وهل كان ثَمَّ مُجَادِلَة؟ وهل كان ثم زوج؟ وهل كان ثَمَّ صوت حتى يسمع الله؟
قال {قَدْ سَمِعَ اللهُ} فإذا كان الله - عز وجل - قال هذا القول في الأزل ولا زوجة ولا مُجَادِلَة ولا قول، فما الذي سمع؟
فيلزم منه أنَّ قوله {قَدْ سَمِعَ} وكل أفعال الماضي في القرآن أنها غير مطابقة للواقع، وهذا هو الكذب.
وهذا لاشك أنه ردٌ منطقيٌ جميل لأنه يلزمهم على أصولهم ولا فرار لهم منه.
إذا تبين لك ذلك، فنقول خلاصة الرد على هذه الطوائف يكمن في أشياء:
@ الرد الأول:
الاستدلال باللغة في معنى كَلَّمَ في معنى الوحي، هذا واحد.
@ الرد الثاني:
الاستدلال بالنصوص من القرآن والسنة التي فيها الإضافة، والقاعدة الفرق ما بين إضافة المخلوقات وإضافة المعاني.
@ الرد الثالث:
أنه يُرَدْ ما استدلوا به من أنواع الأدلة مثل ما أَصَّلُوهُ في أَنَّ الكلام يدل على المعنى فقط في اللغة، وأنّ الوحي يكون بالمعنى والإلقاء في الروع، وغير ذلك من الاستدلالات، مثل قولهم يلزم التشبيه يلزم التجسيم إلى آخره.
@ الرد الرابع:
بقول الآمدي في التفريق ما بين الماضي والحاضر.