الثانية: فإن قال خلقه في غيره، فيلزمه أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله؛ لأن الله خلق كلام زيد في زيد وخلق كلام عمرو في عمرو وخلق كلام بكر في بكر، وكل إنسان يتكلم فإن الله هو الذي خلق كلامه فيه فإذا كان كلام الله هو ما خلقه في غيره فكل متكلم إنما يتكلم بكلام الله ولا فرق حينئذ بين القرآن وبين هذيان من الهذيان، وهذا الذي أشرنا إليه في الشبهة الماضية عندما قلنا: إنه لو صح أن يكون المتكلم متكلماً بكلام يكون في غيره لكان كل كلام في الدنيا هو كلام الله، كما لو كان يتكلم عمرو وننسب الكلام إلى زيد ونقول: هذا الكلام كلام زيد لكنه قام بعمرو، وهذا اللازم الذي فرت منه المعتزلة والأشعرية التزمه ورضي به الاتحادية كما قال كبيرهم ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وقال أيضاً: لمّا أن قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] قال: هذا كلام الله، والمعتزلة وغيرهم لم يكونوا ممن يقرِّ بكلام الاتحادية ولا يوافق عليه، فإذاً لا يستطيعوا أن يقولوا: إن الله خلق كلامه في نفسه، ولا أنه خلق الكلام في غيره، وإلا لزمهم أن يكون كل كلام هو كلامه تعالى.
وأما الثالثة فلو قالوا: إن الله خلق القرآن قائماً بنفسه منفصلاً فهذا محال، أي: أن كلامه هو كلامه، ومع هذا خلقه خلقاً منفصلاً كما خلق السموات والأرض والجبال وفلان وفلان من الناس خلقاً منفصلاً قائماً بذاته، فيكون القرآن منفصلاً قائما بذاته فيكون هذا محال؛ لأن الكلام لا يكون إلا من متكلم، والإرادة لا تكون إلا من مريد، والعلم لا يكون إلا من عالم، وأي صفة من هذه الصفات لا بد أنها متعلقة بذات، ولا يمكن أن تكون هذه الصفة ذاتاً مستقلة.