ومما سبق تقريره يتبين أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أزلي بصفاته، خالق، ورازق، وقدير إِلَى ما لا بداية له، فآثار هذه الصفات ومفعولاتها تظهر في حوادث يرسلها تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا علم لنا بها، ولا نستطيع أن ندركها، لكننا لا ننفيها أيضاً، لأنه ليس في الدين ولا في العقل ما ينفيها، وإنما نؤمن بأنه سبحانه (لم يكن قبله شيء) ، كما في الرواية الراجحة المختارة.
ثُمَّ يشرع المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في بيان الأدلة الدالة عَلَى صحة القول الثالث، وهذه الأوجه هي بعض ما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ فقد ذكرها بتوسع وتفصيل أكثر، فمن أراد الاستفادة فليراجع شرح حديث عمران ضمن مجموع الفتاوى (18/210)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه:
أحدها: أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) ، وهو إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه عَلَى الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض. وأيضاً فإنه قَالَ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) ، وقد روي (معه) ، وروي (غيره) ، والمجلس كَانَ واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ "القَبْل" ثبت عنه في غير هذا الحديث.
ففي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) الحديث.
واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كَانَ كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ "القَبْل"، كالحميدي والبغوي وابن الأثير.