والشاهد منه أننا نعلم أن هذا العدو -الإمبراطور عظيم الروم- أسلم وآمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلال ما يعرفه من صفات النبوة التي جاءت في الكتب المنزلة، والتي طابق وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها.
مع أن هرقل لم يرَ آية من آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ انشقاق القمر، ولم يرَ الماء وهو ينبع من بين أصابعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ الطعام وهو يفرغ من القدر فيكفي المئات بينما هي طُبخت لأفراد، ولم يرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعطي سهمه في الحديبية، ويوضع في البئر فإذا الماء يفور منها.
وغيرها من الآيات البينات التي أعطاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرها هرقل.
وإنما جاءه هذا الكتاب فقط، وفيه دعوة موجزة إِلَى التوحيد، فطابق بين ذلك وبين ما وصفه به أبو سفيان عدوه في ذلك الحين، فرأى أن هذا هو النبي حقاً. فالشاهد من هذا أن العلم بالنبوة وثبوتها، أو العلم بأي قضية أو بأي مسألة من مسائل الاعتقاد لها في الإثبات طرق يحصل بها اليقين، غير الطرق التي يقولها المتكلمون.
والطرق التي يثبت بها المتكلمون النبوة إما أنها معجزة، أو آية مشاهدة خارقة، أو أنها تواتر ينقله جملة عن جملة عن جملة. وقد جَاءَ في السير أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرسل إِلَى هرقل إلا رجلاً واحداً وهودحية الكلبي، وفي السير وفي كتب التاريخ اختلاف في إرسال دحية الكلبي، هل أرسله مرتين أو مرة واحدة؟ وهل جاءه إِلَى بصرى ثُمَّ ذهب إِلَى الشام؟ وهل هي واقعة أو واقعتين؟ المهم أنه رجل واحد أرسله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو فرضنا أنه أرسل اثنين أو ثلاثة لما كَانَ ذلك يبلغ مبلغ التواتر الذي يشترطه المتكلمون.