فمن آثار الحكمة في ذلك أنه أثار هذا الضمير، ولذلك كَانَ أحد السفيرين اللذين بعثتهما قريش له ضمير حاضر حي كما سنرى في القصة، لقد رأت قريش أنه لا بد من إرجاعهم إِلَى مكة ولو لم يكن في ذلك الإرجاع أنهم سيعذبونهم ويذلونهم، لكن فيه القضاء عَلَى ما بدأت البيوت المكية تتفاعل معه؛ من مسألة فقد الآباء، والأقرباء والأرحام لأجل الدين، قالوا: إذاً نستردهم إليهم ويكون الموقف فيما بعد، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعه إِلَى النجاشي وأهدوا إليه هدايا، ومن أعظم الهدايا التي كَانَ يحبها النجاشي ويحبها قومه الجلود المدبوغة، وكانت توجد لدى العرب، ولا توجد عند غيرهم من الأمم بالشكل الذي عند العرب، فكانت تعجبهم هذه البضاعة وهذه الهدايا والتحف فأعطوهم التحف.
وقد كَانَ قال أشراف قريش: اذهبوا إليه، وأعطوا رؤساء القوم والأساقفة والمستشارين كلاً منهم هديته، وأقنعوهم عَلَى الأمر قبل أن تكلموا النجاشي، فإذا كلمتموه، فإنهم يوافقونكم عَلَى ذلك، فذهب عمرو وعبد الله وجلسوا إِلَى المستشارين والمكرمين والوزراء، وأعطوا كلاً منهم هديته وتقبلوها.
وقالوا لهم: الأمر كذا وكذا، ونريد إذا طرح الموضوع عند الملك أن تؤيدوه، ثُمَّ دخلوا عَلَى الملك فسلموا عليه وأهدوا إليه الهدية، وقالوا له: أيها الملك إننا جئنا إليك من أشراف قومنا، وإنه نبتت في قومنا صبية سفهاء تركوا دين قومهم وأشرافهم وكبارهم، وسفهوا أحلامهم، وخطئوا آراءهم، وقد جاءوا إليك مهاجرين وإن قومهم أعلم بهم منكم، فإن رأيتم أن تردوهم إِلَى أقوامهم، فإنهم أعلم بشأنهم وحالهم منكم؛ لكي لا تفسد المودة بينك وبينهم، هذا معنى كلامهم.