وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ1. فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ أَصْلًا لَهُ شُعَبٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَكُلُّ شُعْبَةٍ مِنْهَا تُسَمَّى: إِيمَانًا، فَالصَّلَاةُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَالْأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ، كَالْحَيَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، حَتَّى تَنْتَهِيَ هَذِهِ الشُّعَبُ إِلَى إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّهُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَهَذِهِ الشُّعَبُ، مِنْهَا مَا يَزُولُ الإيمان بزوالها [إجماعا]، كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعا، كترك إماطة الأذى على الطَّرِيقِ، وَبَيْنَهُمَا شُعَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ تَفَاوُتًا عَظِيمًا، مِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَةِ الشَّهَادَةِ، وَمِنْهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ شُعْبَةِ إِمَاطَةِ الْأَذَى, وَكَمَا أَنَّ شُعَبَ الْإِيمَانِ إِيمَانٌ، فَكَذَا شُعَبُ الْكُفْرِ كُفْرٌ، فَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَثَلًا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ كُفْرٌ, وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" 2. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: "لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ" , وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ، وَمَنَعَ لِلَّهِ: فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ" 3. وَمَعْنَاهُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ أَصْلُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ، وَبَذْلُ الْمَالِ وَمَنْعُهُ هُوَ كَمَالُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَالَ آخِرُ الْمُتَعَلِّقَاتِ بِالنَّفْسِ، وَالْبَدَنُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْمَالِ، فَمَنْ كَانَ أَوَّلُ أَمْرِهِ وَآخِرُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ، كَانَ اللَّهُ إِلَهَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ، وَهُوَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ وقصده ورجاؤه، فيكون مستكملا الْإِيمَانِ, إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل.
وسيأتي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَأْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَحُبُّهُمْ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَطُغْيَانٌ. فَسَمَّى حُبَّ الصحابة إيمانا، وبغضهم كفرا.