فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ وَتَخْتَلِفُ وَتَتَقَاتَلُ إِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ جَمَعَهُمُ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ التَّرَخُّصَ فِي الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، لِمَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَلَمَّا تَذَلَّلَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ يَسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوْفَقُ لَهُمْ, أَجْمَعُوا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ, وَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْمُصْحَفَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمَلَ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ, وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى نَقْلِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ, وَتَرْكِ مَا سِوَاهُ, وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا لَا وَاجِبًا، أَوْ أَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ الْقِرَاءَةَ بِالْمَعْنَى! فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وإنما قال: قد نظرت إلى القرأة1 فَرَأَيْتُ قِرَاءَتَهُمْ مُتَقَارِبَةً، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ، وَأَقْبِلْ، وَتَعَالَ، فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ, أَوْ كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نُجَادِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فَكَيْفَ بِمُنَاظَرَةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ؟ فَإِنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنَاظَرَ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَلَيْسَ إِذَا أَخْطَأَ يُقَالُ: إِنَّهُ كَافِرٌ، قَبْلَ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي حَكَمَ الرَّسُولُ بِكُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا, وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ والنسيان, ولهذا ذم السلف أهل الأهواء، وذكر [وا] أَنَّ آخِرَ أَمْرِهِمُ السَّيْفَ, وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةُ بَيَانٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا.
وَقَوْلُهُ: وَنَشْهَدُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا.
وَقَوْلُهُ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]، هو جبرائيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُمِّيَ رُوحًا لِأَنَّهُ حَامِلُ الْوَحْيِ الَّذِي بِهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ إِلَى الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ أَمِينٌ حَقُّ أَمِينٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ