قُلْتُمْ: مَا دَلَّ الْقَاطِعُ الْعَقْلِيُّ عَلَى اسْتِحَالَتِهِ تَأَوَّلْنَاهُ، وَإِلَّا أَقْرَرْنَاهُ! قِيلَ لَكُمْ: وَبِأَيِّ عَقْلٍ نَزِنُ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ؟ فَإِنَّ الْقِرْمِطِيَّ الْبَاطِنِيَّ يَزْعُمُ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى بُطْلَانِ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ! وَيَزْعُمُ الْفَيْلَسُوفُ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى بُطْلَانِ حَشْرِ الْأَجْسَادِ! وَيَزْعُمُ الْمُعْتَزِلِيُّ قِيَامَ الْقَوَاطِعِ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَةِ الله تعالى، وعلى امتناع قيام عالم أَوْ كَلَامٍ أَوْ رَحْمَةٍ بِهِ تَعَالَى!! وَبَابُ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يَدَّعِي أَصْحَابُهَا وُجُوبَهَا بِالْمَعْقُولَاتِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ مَحْذُورَانِ عَظِيمَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا نُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى نَبْحَثَ قَبْلَ ذَلِكَ بُحُوثًا طَوِيلَةً عَرِيضَةً فِي إِمْكَانِ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ! وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذهبوا إليه، فيؤول الأمر إلى الحيرة المحذورة. الثاني: أن القلوب تتخلى عَنِ الْجَزْمِ بِشَيْءٍ تَعْتَقِدُهُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ. إِذْ لَا يُوثَقُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْمُرَادُ، وَالتَّأْوِيلَاتُ مُضْطَرِبَةٌ، فَيَلْزَمُ عَزْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنِ الدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا أَنْبَأَ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ، وَخَاصَّةُ النَّبِيِّ هِيَ الْإِنْبَاءُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ النَّبَأُ الْعَظِيمُ. وَلِهَذَا نَجِدُ أَهْلَ التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِلِاعْتِضَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ، إِنْ وَافَقَتْ مَا ادَّعَوْا أَنَّ الْعَقْلَ دل عليه قبلوه، وَإِنْ خَالَفَتْهُ أَوَّلُوهُ! وَهَذَا فَتْحُ بَابِ الزَّنْدَقَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
قَوْلُهُ: "وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ".
ش: النَّفْيُ وَالتَّشْبِيهُ مَرَضَانِ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ، فَإِنَّ أَمْرَاضَ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ: مَرَضُ شُبْهَةٍ، وَمَرَضُ شَهْوَةٍ، وَكِلَاهُمَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الْأَحْزَابِ: 32]. فَهَذَا مَرَضُ الشَّهْوَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [الْبَقَرَةِ: 10]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التَّوْبَةِ: 125]. فَهَذَا مَرَضُ الشُّبْهَةِ، وَهُوَ أَرْدَأُ مِنْ مَرَضِ الشَّهْوَةِ، إِذْ مَرَضُ الشَّهْوَةِ يُرْجَى لَهُ الشِّفَاءُ بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَمَرَضُ الشُّبْهَةِ لَا شِفَاءَ لَهُ إِنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. وَالشُّبْهَةُ الَّتِي فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ نفيها وتشبيهها، وشبه النفي أردأ من شبه التشبيه، فإن شبه النَّفْيِ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وشبه التشبيه غلو مجاوزة لِلْحَدِّ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كُفْرٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لَيْسَ كَمِثْلِه