«ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا كَانَ كَثْرَةَ السُّؤَالِ ثُمَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الرُّسُلِ بِالْمَعْصِيَةِ.

ثُمَّ الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ، مِنَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ - عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ.

وَالثَّانِي: اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ. وَكِلَاهُمَا فِيهِ إِيمَانٌ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.

فَالْأَوَّلُ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا الْكَلَامُ حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَكَوْنِهِ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقُمْ بِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَعَتْ فِي كَلَامِهَا بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَآمَنَتْ بِبَعْضِ الْحَقِّ، وَكَذَّبَتْ بِمَا تَقُولُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِهِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَثِيرٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، هَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ وَهَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ، فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: " أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا وُكِّلْتُمْ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ انْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (?). وَفِي رِوَايَةٍ: «يَا قَوْمُ بِهَذَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَضَرْبِهِمِ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِتَضْرِبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَإِنَّ الْمِرَاءَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015