فَالنَّاسُ إِذَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ: إِمَّا عَادِلُونَ وَإِمَّا ظَالِمُونَ، فَالْعَادِلُ فِيهِمْ: الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَالظَّالِمُ: الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ. وَأَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا يَظْلِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (?). وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْعَدْلِ، أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُمْ نُوَّابًا عَنِ الرَّسُولِ، وَقَالُوا: هَذَا غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ، وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مُقَلِّدِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا، وَيَذُمُّ مَنْ خَالَفَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ أَنْوَاعَ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَصْلِ قِسْمَانِ: اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ، وَاخْتِلَافُ تَضَادٍّ:
وَاخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ عَلَى وُجُوهٍ:
مِنْهُ مَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْفِعْلَيْنِ حَقًّا مَشْرُوعًا، كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى زَجَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ "، وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَحَلِّ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا قَدْ شُرِعَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ أَرْجَحَ أَوْ أَفْضَلَ.
ثُمَّ تَجِدُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا أَوْجَبَ اقْتِتَالَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ عَلَى شَفْعِ الْإِقَامَةِ وَإِيتَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ! وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهَوَى لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخَرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ -: مَا