أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ». وَنَظَائِرُهُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ يُسْقِطُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْ غَيْرِ تَرِكَتِهِ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ، حَيْثُ ضَمِنَ الدِّينَارَيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَلَمَّا قَضَاهُمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ».
وَكُلُّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ حَقُّ الْعَامِلِ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْ هبة ماله له فِي حَيَاتِهِ، وَإِبْرَائِهِ لَهُ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَقَدْ نَبَّهَ الشَّارِعُ بِوُصُولِ ثَوَابِ الصَّوْمِ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّ الصَّوْمَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى وُصُولِ ثَوَابِهِ إِلَى الْمَيِّتِ، فَكَيْفَ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ عَمَلٌ وَنِيَّةٌ؟!
وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (?) - قَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَجْوِبَةٍ: أَصَحُّهَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِسَعْيِهِ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ اكْتَسَبَ الْأَصْدِقَاءَ، وَأَوْلَدَ الْأَوْلَادَ، وَنَكَحَ الْأَزْوَاجَ، وَأَسْدَى الْخَيْرَ وَتَوَدَّدَ إِلَى النَّاسِ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَأَهْدَوْا لَهُ ثَوَابَ الطَّاعَاتِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَثَرَ سَعْيِهِ، بَلْ دُخُولُ الْمُسْلِمِ مَعَ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي وُصُولِ نَفْعِ كُلٍّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صَاحِبِهِ، فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِانْتِفَاعِ صَاحِبِهِ بِدُعَاءِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَعْيِهِمْ، فَإِذَا أَتَى بِهِ فَقَدْ سَعَى فِي السبب الذي يوصل إليه ذلك.