قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ: قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ تَخْرِيجِ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الآثار واعتقادهم وَتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا، وَبِاللَّهِ الْعِصْمَةُ وَالتَّوْفِيقُ.
وَقَوْلُهُ: (وَأَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الْخِذْلَانِ، وسُلم الْحِرْمَانِ، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ الْقَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (?) فَمَنْ سَأَلَ: لِمَ فَعَلَ؟ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الْكِتَابِ، كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
ش: أَصْلُ الْقَدَرِ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ أَوْجَدَ وَأَفْنَى، وَأَفْقَرَ وَأَغْنَى، وَأَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَضَلَّ وَهَدَى. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه: القدر سر الله فلا نكشفه.
وَالنِّزَاعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ مَشْهُورٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ أَفْعَالَ الْعِبَادِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (?) وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (?). وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَيَشَاؤُهُ، وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَيَشَاؤُهُ كَوْنًا، وَلَا يَرْضَاهُ دِينًا.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَزَعَمُوا: أَنَّ اللَّهَ شَاءَ الْإِيمَانَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ شَاءَ الْكُفْرَ، [فَرُّوا إِلَى هَذَا، لِئَلَّا يَقُولُوا] (?) شَاءَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَعَذَّبَهُ عَلَيْهِ! وَلَكِنْ صَارُوا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنار!. فإنهم هربوا من شيء