تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ». فَهَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِهِ السَّامِعُ لَهُ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ مُرَادِهِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةُ لَفْظِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُؤَكِّدَةِ، كَانَ صَادِقًا فِي إِخْبَارِهِ. وَأَمَّا إِذَا تَأَوَّلَ الْكَلَامَ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِخْبَارُهُ بِأَنَّ هَذَا مُرَادُهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ بِالرَّأْيِ، وَتَوَهُّمٌ بِالْهَوَى.
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: نَحْمِلُهُ عَلَى كَذَا، أَوْ: نَتَأَوَّلُهُ بِكَذَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ، فَإِنَّ مُنَازِعَهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بِهِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُ وُرُودِهِ، دَفَعَ مَعْنَاهُ، وَقَالَ: أَحْمِلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ لِلْحَمْلِ مَعْنًى آخَرَ، لَمْ تَذْكُرُوهُ، وَهُوَ: أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُرَادَ بِهِ حَقِيقَتُهُ وَظَاهِرُهُ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْطِيلُهُ، اسْتَدْلَلْنَا بِوُرُودِهِ وَعَدَمِ إِرَادَةِ ظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مَجَازَهُ هُوَ الْمُرَادُ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ دَلَالَةً لَا ابْتِدَاءً.
قِيلَ: فَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ أَرَادَهُ، وَهُوَ إِمَّا صِدْقٌ وَإِمَّا كَذِبٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنَ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُرِيدَ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَا يُبَيِّنُ لِلسَّامِعِ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ، بَلْ يَقْرُنُ بِكَلَامِهِ مَا يُؤَكِّدُ إِرَادَةَ الْحَقِيقَةِ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ يُرِيدُ بِكَلَامِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، إِذَا قَصَدَ التَّعْمِيَةَ عَلَى السَّامِعِ حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُنْكَرَ أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ خِلَافَ حَقِيقَتِهِ وَظَاهِرِهِ إِذَا قَصَدَ الْبَيَانَ وَالْإِيضَاحَ وَإِفْهَامَ مُرَادِهِ! كَيْفَ وَالْمُتَكَلِّمُ يُؤَكِّدُ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي الْمَجَازَ، وَيُكَرِّرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَضْرِبُ لَهُ الْأَمْثَالَ.
وَقَوْلُهُ: "فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ".
أَيْ: سَلَّمَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهَا بِالشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: الْعَقْلُ يَشْهَدُ بِضِدِّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّقْلُ! وَالْعَقْلُ أَصْلُ النَّقْلِ!! فَإِذَا عَارَضَهُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ!! وَهَذَا لَا يَكُونُ قَطُّ. لَكِنْ إِذَا جَاءَ مَا يُوهِمُ مِثْلَ ذَلِكَ: فَإِنْ