فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَعَمُوهُ حَتَّى لَا يُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَضَوْا بِكُفْرِهِ، وَمَنْ رَضِيَ بِكُفْرِ غَيْرِهِ يَكْفُرُ.

قُلْنَا: لِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُسْلِمُ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ تَقِيَّةً لِيَنْجُوَ مِنْ الْقَتْلِ. فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُمْ بِكُفْرِهِ.

وَالثَّانِي أَنَّ مَقْصُودَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَامُ مِنْهُ وَالتَّشْدِيدُ عَلَيْهِ، لِكَثْرَةِ مَا آذَاهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الرِّضَى بِكُفْرِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] يَتَّضِحُ لَهُ هَذَا الْمَعْنَى.

وَأَيَّدَ هَذَا مَا رُوِيَ «أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَاءَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ (ص 169) يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. حَتَّى جَاءَ إلَى كُلِّ جَانِبٍ هَكَذَا، فَقَالَ: بَايَعْنَاهُ فَلْيَنْصَرِفْ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ مَنْ يَقُومُ إلَيْهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أَنْ أُبَايِعَهُ؟ فَقَالُوا: أَهَلَّا أَوْمَأَتْ إلَيْنَا بِعَيْنِك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» .

وَأَحَدٌ لَا يَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْضَى بِكُفْرِهِ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ فِي ذَلِكَ تَقِيَّةً. فَلِهَذَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَقَالَ مَا قَالَ.

770 - وَلَوْ أَنَّ الْأَسِيرَ قَالَ لِلْمُسْلِمِ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ. فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ: الْأَمَانَ الْأَمَانَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ رَدَّ كَلَامِهِ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُرِدْ عَلَى هَذَا. فَهَذَا فِي حَقِّهِ حَلَالُ الدَّمِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ. وَلَكِنْ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَا يُصَدِّقُهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ مُرَادِهِ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015