وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبيّن الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المكلفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها, ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بسجاياهم تارةً، وتطريبًا أخرى، وهذا أمر في الطباع، ولم ينه عنه الشارع, مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه -صلى الله عليه وسلم، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: "ليس منَّا مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن" وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار