لقد رد المحققون على أدلة القائلين بجواز التبرك بذوات الصالحين، فقالوا: إن الأدلة واردة في جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، ونحن لا نخالفكم في هذا، وإنما نقول: أنتم جعلتم الصالحين أو آحاد الناس من هذه الأمة في منزلة سيد الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقستم الناس عليه.
قال المجيزون: نعم، لأن الصالحين يقتدون ويقتفون أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وهم ورثة علمه صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما العلماء ورثة الأنبياء)، فلم لا نفعل بهم ذلك وهم على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل عندنا عدم التخصيص؛ لأن الله جل وعلا إذا شرع شرعاً ووضع أحكاماً كانت على العموم لا على الخصوص، كما قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:231]، للناس عموماً، فقد قال الرجل: (يا رسول الله! ألي خاصة؟ قال: بل للأمة عامة)، فالأصل في الأحكام أنها على العموم، فكذلك لا نخصص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة.
ثم قالوا: إن قلتم: إن الأدلة وردت في الأنبياء، فعندنا قصة الشافعي، ولا مدخل للأنبياء فيها.
قال المانعون: أما الكلام على الأنبياء فنحن نقول بالخصوصية، وبعد الاتفاق معكم على أن الأصل في الأحكام العموم، لكن التبرك بآثار الأنبياء خاص بالأنبياء فقط لا بالصالحين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل البشر أجمعين، وموسى عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وعيسى عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وإبراهيم عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وهذا لا سبيل إلى إنكاره.
من الأدلة على أن الأنبياء والرسل هم أفضل الناس أجمعين: قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ووجه الدلالة: أنه قدم ذكر النبيين على غيرهم في قوله {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]، فدل هذا التقديم على أفضليتهم، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر النبيين ولم يذكر الرسل فإنهم يدخلون في هذا الذكر.
ومن الأدلة كذلك: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، فهذا يدل على أنه أفضل الخلق أجمعين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).
وأيضاً من الأدلة: قول الله تعالى عن الأنبياء: {الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:47]، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] و (من) هنا تبعيضية.
فهذه الأدلة على أن الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، فإذا كانوا كذلك فهذه دلالة على الخصوصية التي كانت لهم؛ لأن البركة كل البركة مع هؤلاء الذين هم أفضل البشر.
فإذاً: لا يقاس غيرهم عليهم.
قال المجيزون: إن الشافعي تبرك بغسول ثياب أحمد بن حنبل، وأحمد ليس بنبي.
قال المانعون: هذه القصة لا تثبت عن الشافعي بحال من الأحوال؛ لأن إسنادها مظلم.
ثم إذا سلمنا ذلك جدلاً، وقلنا: إنها حدثت من الشافعي -مع أنها لم تثبت عنه ولله الحمد والمنة- فإننا والله لا نقبل منه هذا الفعل، ولا نقبل منه هذا القول، فهو القائل: إن صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: إذا خالف فعلي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو قولي قول النبي صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي أو فعلي عرض الحائط، وهو الذي قال: قول الصحابي حجة ما لم يخالفه أحداً من الصحابة، ودائماً يحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)، فنقول: هذا فعل الشافعي، ولكن فعل عمر يخالفه، وفعل أبي بكر يخالفه، وفعل عثمان يخالفه، وفعل علي يخالفه، وفعل ابن عباس -البحر- يخالفه، وفعل ابن عمر التقي الورع الأثري يخالفه، فبمن نقتدي؟ نقتدي بـ الشافعي، أم نقتدي بهؤلاء الأكارم الأماجد الأخيار؟ نقتدي بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ لأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، والعلم إنما جاء عنهم.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه فإذاً: ليس لهم حجة في ذلك بحال من الأحوال.
فنقول: التبرك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما دليلهم الأول فهو خاص بأنبياء بني إسرائيل: موسى وهارون وآثارهما، فإن سلمنا ذلك جدلاً وقلنا: قد جاءت آثار موسى وهارون وتبركوا بها، فنقول: هذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا على الصحيح الراجح أصولياً أنه شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما يكون ناسخاً له؛ وقد جاء من شرعنا النسخ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الصالحين؛ لأن الغلو يوصل الإنسان إلى أن يعتقد في الشخص ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه.
وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه، وأنه رضي الله عنه أراد أن يتبرك بهذا المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: أولاً: لم يرد عنه رضي الله عنه الله عنه أنه أراد التبرك، وإنما أراد أن يأخذ إقراراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعمى: (تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب).
ثانياً: أن التبرك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم جائز، وحق له أن يتبرك بذلك؛ لأنه تبرك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبمكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يصل إلى منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول له: صل في المكان الفلاني حتى تحل فيه البركة، بل إن هذا العمل يؤدي إلى هلاك الشخص والعياذ بالله، لأنه قد يرى في نفسه أنه من أتقى الناس وأورع الناس، فيدخله العجب والكبر، فيؤدي هذا إلى هلاكه، فليس لأحد أن يداني النبي صلى الله عليه وسلم في منزلته، فلذلك لا يجوز التبرك بآثار الصالحين.
أما استدلالهم بحديث تحنيك المولود، فنقول: إن كان المقصود من التحنيك هو التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة به، ولا يجوز التحنيك بعد ذلك؛ لأن هذه السنة قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود من التحنيك غير التبرك فلا حجة لهم فيه، وهذا هو الصحيح الراجح، وهو الظاهر من الحديث؛ لأن أنساً قال: (وبرك)، أي: دعا له بالبركة.
إذاً: الصحيح الراجح كما بين ابن القيم: أن الإنسان عند خلو معدته من الطعام فإن أفضل ما ينزل إلى معدته حتى يرطبها هو الشيء الحلو، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يحنك بتمر فعلى حسوات من الماء.
فهذه دلالة واضحة في أن المقصود من التحنيك هو: أن يدخل الشيء الحلو في معدة الطفل، ولذلك نحن لا نشترط أن يكون بالتمر فقط، بل ممكن أن يكون بعسل أو سكر أو أي شيء حلو، وإنما التمر أولى من غيره.
فالخلاصة أننا نقول: إن كان المقصود من التحنيك التبرك، فهذه سنة قد انقطعت وانتهت بموته صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يعملها مرة أخرى، لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود بالتحنيك هو دخول الشيء الحلو إلى معدة الطفل حتى يرطب معدته، فنقول: هذه سنة إلى يوم القيامة، وهذا هو الصحيح، وليس في ذلك دليل على جواز التبرك بآثار الصالحين ولا بذواتهم.