والمذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات صنفان:
الأول: صنف مولد، أي: أنه مركب من دلائل فلسلفية ومقدمات عقلية ومقاصد شرعية، بمعنى: أنه ليس منقولاً نقلاً محضاً صريحاً، لكنه مركب في تكوينه وترتيبه من مقدمات فلسفية هي أساس فيه، ومقاصد شرعية عامة، ومقدمات عقلية؛ من المقاصد الشرعية العامة، مثلاً: أن الله منزه عن التشبيه والتمثيل.
وهذه هي مقالات المعتزلة، ويشاركهم فيها الأشاعرة والماتريدية، وإن كان قرب المعتزلة إلى الفلسفة أكثر بكثير من قرب الأشاعرة.
الثاني: وهي المقالات المنقولة من الفلسفة نقلاً صريحاً، فهي ليست مولدة إنما منقولة بالتمام، وهي المقالات التي تبناها من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين أو فلاسفة الإسلام كـ ابن سينا، وأبي نصر الفارابي، وأبي الوليد بن رشد، وباطنيتهم الغلاة كـ المبشر بن فاتك، وأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثال هؤلاء، فإن مقالات هؤلاء مقالات منقولة، بمعنى: أنها أحرف فلسفية منقولة على التمام، وفي الغالب أنها تنقل عن أرسطو.
إذاً: قال شيخ الإسلام: من المتفلسفة ومن حذا حذوهم لأنه يعتبر أن كل المذاهب الكلامية -معتزلة أو أشعرية أو ماتريدية- مركبة في نتائجها على مقدمات متلقاة من الفلسفة، وأنه لولا هذه المقدمات الفلسفية لما انتهوا إلى هذه المذاهب، وهذه الشهادة التي قالها شيخ الإسلام في هؤلاء لا تختص به رحمه الله، فإن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال صرح في بعض كتبه أن دليل المعتزلة في الصفات منقول عن الفلاسفة.
وإذا كان الأشعري صرح في كتبه أن دليل المعتزلة -وهو دليل الأعراض- دليل فلسفي، وصرح الشهرستاني وغيره أن مذهب المعتزلة في الصفات مذهب فلسفي؛ وإذا كانت حقيقة مذهب الأشاعرة أنه جزء من مذهب المعتزلة؛ لأنهم نفوا طائفة من الصفات وأثبتوا طائفة، إذاً: يصح أن نقول: إن المذهب الأشعري أيضاً جزء من المذهب الفلسفي.
ومن العجب أن أبا الحسن الأشعري وصف دليل الأعراض بأنه دليل فلسفي، حتى إنه منعه في بعض كتبه، ثم هو نفسه يستعمله في بعض كتبه التي بنى عليها المذهب! حيث إن كتب الأشعري على صنفين:
الأول: كتب انتمائية يقصد بها بيان انتمائه واتجاهه، كالرسالة إلى أهل الثغر، والإبانة.
الثاني: كتب قصد بها تقرير المذهب على التفصيل كاللمع والموجز ..
وهذه الكتب استعمل فيها دليل الأعراض.
فهو يمنع هذا الدليل في بعض كتبه، لكي لا يلتزمه العامة، لكنه يعتقد أنه في نفس الأمر دليل صحيح، ومثله كذلك أبو حامد الغزالي، حيث منعه في بعض كتبه، واستعمله عند الترتيب العقدي للمذهب.
وجمهور الأشاعرة يصرحون بصحة الدليل، مع قولهم أنه دليل فلسفي عند المعتزلة، وهذا بسبب إدخالهم بعض التغييرات في مقدماته.