استخدام السلف للدلائل العقلية

وهنا مسألة يحسن التنبيه إليها: وهي أن المصنف يستعمل طريقة الترتيب والمناظرة في عرضه، وقد كان بعض أئمة السلف تارةً يستعملون هذا، وهذا رد على من قال: إن مذهب السلف لا يستعمل الدلائل العقلية.

فإن السلف لم يذموا الدلائل العقلية إنما ذموا علم الكلام، وهذا لا يعني أن علومهم مبنية على العقل، لكن لأن العقل لا يعارض الشرع، فإنه لا يذم، ولهذا لا نجد أن السلف ذموا الدلائل العقلية بإطلاق، إنما قد يذمون دليلاً معيناً عقلياً، لكن العبارة المتواترة عن السلف هي ذم علم الكلام، وعلم الكلام هو عبارة عن أدلة مفروضة من العقل لكنها ليست كل الدلائل العقلية، مثلما قد يقال: إن بعض الأحاديث أحاديث موضوعة، فتضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في حقيقتها ليست من كلامه، فكذلك الأدلة الكلامية حقيقتها أنها ليست دلائل عقلية؛ فإن العقل الصحيح لا يدل عليها ولا يصححها.

وسنرى فيما بعد أن أخص الدلائل الكلامية المستعملة عند جميع الطوائف بلا استثناء لا تخرج عن ثلاثة أدلة من الترتيب العقلي الكلامي: دليل التركيب، والأعراض، والاختصاص.

ومن الأمثلة على استخدام السلف للدلائل العقلية: أن الإمام أحمد قال لـ ابن أبي دؤاد: يا أحمد! القرآن مخلوق ..

أهذا من الدين أم ليس من الدين؟ فقال ابن أبي دؤاد: هو من الدين.

قال: هذا الدين أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ فقال ابن أبي دؤاد: بل قد عرفوه -طبعاً لا يستطيع أن يقول: لم يعرفوه- فقال له الإمام أحمد: أين هو من كلامهم؟ يعني: أين في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه وخاصة الخلفاء أن القرآن مخلوق؟ فانقطع ابن أبي دؤاد وانتهى المجلس.

فلما كان من الغد قال ابن أبي دؤاد: يا أبا عبد الله! أقلني -يعني: أقلني عن الجواب الأول- فقال الإمام أحمد: أقلتك.

قال: لم يعرفوه.

قال: دين لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي جئت لتعرفه أنت؟! فانقطع ثانيةً.

فلما كان المجلس الثالث قال ابن أبي دؤاد: يا أحمد! -يعني الإمام أحمد - القرآن غير مخلوق ..

أهذا من الدين؟ أراد أن يستعمل نفس المناظرة ..

فقال الإمام أحمد: من الدين.

قال: عرفه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ قال: عرفوه.

قال: أين هو في كلامهم؟ قال الإمام أحمد: اسكت ونسكت.

ما معنى هذا الجواب؟

معناه أن كلمة: القرآن غير مخلوق هي نفي لإثبات؛ فقصد الإمام أحمد وأئمة السنة نفي بدعة طرأت، حيث إن هذه البدعة تقول: القرآن مخلوق.

فنفاها الأئمة بقولهم: القرآن غير مخلوق.

فقوله: اسكت ونسكت أي: لا تقولوا القرآن مخلوق حتى لا ننفي ما قلتم؛ فإنه إذا لم يقع هذا الإثبات المعتزلي الجهمي لم يحتج أئمة السنة إلى نفي شيء لم يقع، فيبقى الناس على معتقد القرآن، أي: على ما صرح به في القرآن وهو: أن القرآن كلام الله كما في قوله تعالى:

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015