أشار المصنف في ختام الرسالة إلى النظر في حال المخالفين، فقد بين في أول رسالته أنهم في قول مختلف، وذكر نقلاً عن الرازي في كتابه أقسام اللذات لما قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن.
ونقل عن الشهرستاني في كتابه نهاية الإقدام:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم
وكذلك نقل عن أبي المعالي الجويني.
فبين أن هؤلاء قد استولت عليهم الحيرة، وأنهم لم يحققوا في هذا الباب شيئاً من العلم؛ لأنهم أعرضوا عن محل التحقيق والعلم في هذا الباب وهو الكتاب والسنة، فهم يُذمون من هذا الوجه، ويُطعن على مذهبهم كثيراً، ويبين أنه مذهب مخالف للقرآن والحديث، ومخالف لإجماع السلف.
ولكنهم من جهة أخرى، ينظر إليهم بعين القدر والرحمة؛ فإنه يترفق بهم؛ فإن القوم أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً، وأوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهوماً تناسب الفهم الصحيح في كتاب الله وسنة نبيه.
ولهذا يمكن أن يقال: إن هذا إشارة إلى أن طالب العلم ينبغي له أن يفرق في هذا المقام بين المقالة وقائلها، وأن الحكم الذي تأخذه المقالة كما إذا قيل القول بخلق القرآن كفر كما تواتر عن السلف، لكن ليس كل من قال: القرآن مخلوق من المعتزلة وغيرهم يقال: إنه كافر، وليس معنى هذا الكلام أنه يمتنع تكفير الأعيان عند السلف؛ وإلا لما كان كفراً حقيقياً، وإنما المقصود أنه لا تلازم بين المقالة وقائلها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق.
وقال: إن بعض مقالات الجهمية الكفرية وقع فيها بعض من له إيمان معروف من هذه الأمة الذين لم يتبين لهم حقيقة هذه المقالة، وقال: والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية إلا أنه لم يشتغل بتكفير كل من قال بقولهم، بل قد صلى خلف من يقول بخلق القرآن ودعا له واستغفر له.
يقصد: المعتصم العباسي؛ فإنه كان من القائلين بخلق القرآن حتى إنه نصره بالسيف، ولكن الإمام أحمد لم ير أنه قد تحقق فيه حكم هذه المقالة الكفرية.
فالقاعدة: أنه ثمة فرق بين المقالة وقائلها.
وفي هذا الباب للمصنف رسالة لطيفة في المجلد الثالث، وهي شرحه لحديث الافتراق، وقد ذكر فيها بعض القواعد في مسألة أهل القبلة، وتبديع المخالف للسلف، وهل يقال بكفرهم أو لا يقال، وبين غلط بعض الفقهاء الذين كفروا أهل البدع، واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) حيث ففهموا من هذا الجزم لهم بالنار، أو فهموا من هذا أنهم كفار، فبين أن كلا الفهمين غلط، فإنه لا يجزم لسائر المخالفين للسلف بالنار باعتبار سائر أعيانهم، ولا يجزم لهم باعتبار سائر أعيانهم بالكفر، بل جمهورهم على الإسلام وإن كانوا ظالمين لأنفسهم بتقصيرهم في تحقيق الحق واتباعه وطلبه والاجتهاد فيه.
وإن كان يقع في بعض الطوائف من هو من أهل الزندقة كما هو حال غلاة الصوفية أو غلاة الجهمية أو الشيعة المؤلهين لـ علي، والذين قتلهم علي رضي الله عنه، عندما ظهر بعضهم في زمنه.