المقصد الخامس: أصناف المنحرفين عن سبيل السلف

قال المصنف: والمنحرفون عن سبيلهم ثلاثة أصناف -أي: عن سبيل السلف-:

الأول: أهل التخييل: وهم الذين فرضوا نصوص الكتاب والسنة تخييلاً للجمهور، واختصوا الحقيقة العلمية بمن سموهم الحكماء -يعنون الفلاسفة- وهذه طريقة المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متفقه ومتصوف ومتكلم.

وقد ظهر المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام بعد علماء الكلام، وكان من أولهم -إن لم يكن هو أولهم كما تذكر بعض الكتب والمصادر: إن أول من تكلم بالطريقة الفلسفية المحضة في التاريخ الإسلامي هو- يعقوب بن إسحاق الكندي، لكن لم يكن له ذاك الشأن المشهور، إنما اشتهر هذا النمط من كلام أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سينا.

والمتفلسفة في الجملة ينقسمون إلى قسمين: إما نظارية محضة أي يستعملون الطرق الفلسفية النظرية كما هي طريقة أبي الوليد بن رشد وغيره من المتفلسفة، أو عرفانية يستعملون الطرق الباطنية العرفانية التي تنبني على التصوف والإشراق، كما هي طريقة كثير من هؤلاء، وبخاصة الذين انتسبوا إما إلى التشيع وإما إلى التصوف، فإن الباطنية المتفلسفة ينتسبون في الظاهر إلى أحد مذهبين: إما التشيع كما هو شأن أئمة الإسماعيلية والنصيرية، أو إلى التصوف كما هي طريقة أهل وحدة الوجود وأمثالهم كـ ابن عربي وابن سبعين ..

إلخ، أو طريقة ابن سينا في بعض أحواله.

فالباطنية إذاً: إما باطنية شيعة أو باطنية صوفية.

وهم في الحقيقة متفلسفة، وبخاصة في طبقة الأئمة منهم، وإن كان قد ينتسب للإسماعيلية من لا يعرف شيئاً اسمه الفلسفة، بل ربما كان أعرابياً ساذجاً، لكن من حيث أئمة المذهب تراهم متفلسفة أو مقلدة لسلفهم المتفلسفة أصحاب الإشارات والرموز، وهي طريقة تجريدية بعيدة عن الطرق الفلسفية النظرية.

وبعض هؤلاء المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام يستعمل كلا المذهبين: المذهب العرفاني والمذهب النظري؛ فيؤمنون بكلا الطريقين كما هو حال ابن سينا؛ فإنه يستعمل الطريقة العرفانية تارة، فتراه إشراقياً تجريدياً غنوصياً، وتراه في بعض كتبه وأحواله نظرياً عقلانياً، بل إنه في كتابه المشهور الإشارات والتنبيهات ركبه من هذه الطريقة وهذه الطريقة، وصرح ابن سينا في غير موضع من كتبه أنه يؤمن بكلا الطريقين.

كما تأثر بالمنهج الذي صنعه ابن سينا الغزالي في ميزان العمل، فقد ذكر أن مذهبه ثلاثة: مذهب الجدل بالطريقة الكلامية، ومذهب اليقين بالطريقة الصوفية، ومذهب الإرشاد بطريقة الوعظ بالزواجر والدواعي.

هذا الصنف الأول وهم أهل التخييل، وهم ملاحدة زنادقة في الجملة، وهم من حيث الحقائق التي توصلوا إليها هي حقائق فلسفية منقولة، إما عن أرسطو كما هي في الطرق النظرية الغالبة أو عن غيره من الفلاسفة المثاليين، إما عن أفلاطون أو عن غيره.

هذا هو الصنف الأول، وكما أسلفت أنه تأخر ظهوره من حيث التاريخ عن المتكلمين، وهؤلاء اتفق المسلمون على ذمهم، وصنف حتى أئمة الكلام في الرد عليهم، ومن ذلك كتاب أبي حامد الغزالي كتابه مقاصد الفلاسفة، ثم تهافت الفلاسفة وقد جزم الغزالي بكفر الفلاسفة في ثلاثة مسائل: مسألة إنكار المعاد الجسماني، والقول بأن الله لا يعلم الجزئيات وإنما يعلم الكليات، والقول بقدم العالم.

والمصنف هنا يقول: وهم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتفقه.

وهو يشير بهذا إلى بعض المتفلسفة الذين اشتهروا بشيء من الفقه كما هو حال أبي الوليد بن رشد صاحب كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد فإنه متفقه على مذهب الإمام مالك، وإن كان فيلسوفاً أكثر ما اشتهر بمسألة الفلسفة، وبخاصة الفلسفة الأرسطية المنسوبة لـ أرسطو طاليس؛ لأنه من أكثر من دافع عنه وانتصر لطريقته.

ومتصوف كما هو حال ابن عربي وابن سبعين والتلمساني وأمثالهم، فإن هؤلاء وإن عرفوا بالتصوف إلا أن حقائقهم العلمية مبنية على مقدمات فلسفية محضة، بل نظرية وحدة الوجود قد نص أرسطو في بعض كتبه على أنها نظرية فلسفية، وكتب كثيراً في الرد عليها كما ذكر ذلك ابن سينا، وكما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.

الصنف الثاني: وهم أهل التأويل.

وهم الغالب على علماء الكلام، وإن كان ليس كل متكلم هو من أهل التأويل، بل من المتكلمين مشبهة كـ هشام بن الحكم، أو مجسمة كـ محمد بن كرام وأتباعه، لكن جمهور المتكلمين هم من أهل التأويل، وبخاصة أئمة الجهمية والمعتزلة وعامة الأشاعرة والماتريدية، وهم الذين عني المصنف وقصد الرد عليهم؛ لظهور الإشكال في طريقتهم وبخاصة لما انتسب قوم من أصحابها إلى أهل السنة والجماعة، كما هو حال الأشعري وعامة أصحابه.

الصنف الثالث: وهم أهل التجهيل.

وهذه ليست طائفة مختصة معينة، وإنما هو قول في الصفات شاع في كثير من الطوائف المتأخرة، فاستعمله طائفة من الأشاعرة، واستعمله طائفة من الصوفية، وبعض المنتسبين للسنة من الفقهاء ممن لم يحقق مذهب السلف؛ لأن جمهور الأشاعرة قرروا فيما نفوه من الصفات أن مذهب السلف فيه هو التفويض، وهو الذي يسميه المصنف تجهيلاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015