المقصد الثالث في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهو: معتبر القول في باب الأسماء والصفات عند أهل السنة والطوائف.
أما عند أهل السنة والجماعة: فإن هذا الباب يُحكم بالكتاب والسنة كما قال الإمام أحمد: نصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث.
فدلائل الكتاب والسنة هي الحاكمة في باب الأسماء والصفات، وإن كان ينبه في هذه الدلائل إلى مسألتين:
الأولى: أن دلائل الكتاب والسنة ليست دلائل خبرية محضة كما زعمه كثير من غلاة المتكلمين، وعن هذا قالوا: تعارض العقل والنقل؛ ولهذا يصنف غلاتهم الدلائل النقلية السمعية القرآنية النبوية بأنها دلائل خبرية محضة مبنية على صدق المخبر.
ومقصودهم بأنها خبرية محضة: أي أنها لم تتضمن ترتيباً أو تصحيحاً عقلياً، وإنما تصحيحها من جهة أن الذي تكلم بها كالنبي صلى الله عليه وسلم أو جاءت في القرآن الذي قد علم لزوم صدقه.
وهذا الطعن في دلائل القرآن قد نبه شيخ الإسلام إلى أنه قد استعمله كثير من غلاة المتكلمين بالتصريح، قال: وهو حال عامتهم وإن لم يفصحوا به.
والحق أن دلائل الكتاب والسنة وإن كانت دلائل خبرية من جهة أنها قرآن وحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي دلائل شرعية -ولا شك- في سائر مواردها، لكنها ليست خبريةً محضةً في سائر الموارد، وإذا قلنا: ليست خبريةً محضة في سائر الموارد؛ بمعنى: أنها ليست مبنية على صدق المخبر فحسب، ولهذا ترى أن من دلائل الكتاب والسنة ما يصححه ويقبله من لم يدخل دين الإسلام ويؤمن بصدق نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي القرآن استعملت الأدلة الخبرية المحضة، أي: التي يخبر بها الرب سبحانه وتعالى في كتابه، أو يخبر النبي عن ربه ببعض الصفات السمعية المقصورة على ورود السمع.
مثلاً: أخبر سبحانه وتعالى في القرآن في سبعة مواضع أنه استوى على العرش، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذه الآية وأمثالها من آيات الاستواء يقال: إنها دليل خبري محض.
أي: ليس له ترتيب عقلي سابق؛ بمعنى أن العقل لا يمكن أن يدرك هذه الصفة قبل ورود الشرع بها، وإن كان العقل بعد ورود الشرع بالصفة لا يمكن أن يقع في معارضته أو مخالفته.
كذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة حيث قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ...) فهذا أيضاً دليل نبوي خبري محض، ومعنى قولنا: خبري محض أنه لولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بنزول الله إلى السماء الدنيا لما كان لأحد أن يصل إلى ذلك.
لكن فيما يتعلق بعلو الرب سبحانه وتعالى، فقد جاء ذكره في القرآن أكثر من ذكر الاستواء، ولكن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه، وأنه علي عليهم، هذا حقيقة يقر بها العقل ابتداءً.
كذلك الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى سميع بصير ..
هذه حقيقة يقر بها العقل ابتداءً، وإن كان الشرع جاء بها؛ ولهذا قد ترى في بعض الدلائل أو بعض الأخبار القرآنية إخبار عما يقر به العقل ابتداءً؛ فيكون خبر الشارع تقريراً وتحقيقاً وضبطاً لهذا المورد الذي يقر به العقل ابتداءً، وهي معاني الربوبية الأساسية الأولى، والتي فطر جمهور الخلق على الإقرار بها ومعرفتها، وتراها في آيات الله الكونية كثيرة.
كذلك يقع في كثير من الدلائل القرآنية والنبوية ما هو من الترتيب العقلي، وإن كان الدليل من حيث هو قرآني، فهو دليل شرعي خبري؛ لكنه غير مقصور على مسألة التصديق المحضة -أي: تصديق المخبر- بل هو تصديق عقلي.
مثال ذلك: في قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فإبراهيم عليه السلام هنا يريد مناظرة قومه الذين كانوا يشركون في الربوبية والألوهية على طريق الصابئة، حيث يرون أن الكواكب لها من التأثير في الحوادث السفلية شيء كثير، وأن الحوادث السفلية -كما هو رأي المتفلسفة- فرع عن أثر الكواكب العلوية.
فناظرهم إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:75 - 76] فهذه الآية من حيث هي قرآن، لكن هل ألزم إبراهيم قومه هنا بكونهم يعتبرون صدقه أو يعتبرون نبوته أم بطريقة عقلية ملزمة لهم؟ الجواب: بطريقة عقلية ملزمة لهم، فإنه لما رأى الكوكب قال: هذا ربي.
يعني: هذا الذي يؤثر في الحوادث، وليس مقصود إبراهيم عليه السلام في هذه المناظرة المفروضة: أن هذا رب العالمين؛ لأن قومه -كما نص شيخ الإسلام كثيراً على هذا المعنى- ما كانوا يعدون الواحد من الكواكب هو رب العالمين، وإنما كانوا يعتبرون لكل نوع من الكواكب اختصاصاً ببعض الآثار السفلية، فالأمطار -مثلاً- فرع عن حركة الزهرة، والرياح فرع عن حركة كذا
وهلم جرا.
قال شيخ الإسلام: ولهذا كانوا يشركون في الربوبية كما أنهم يشركون في الألوهية.
أي: لم يكونوا ينكرون أصل مسألة الربوبية من أصلها، وإنما كانوا يشركون فيها كما هو المعروف في كلام المتفلسفة بالترقي؛ ولهذا لما أخذ ابن سينا عن هؤلاء أثبت مسألة العقول العشرة والنفوس التسعة.
ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83].
فهذه المناظرة من حيث هي آيات قرآنية يقال: إنها دلائل سمعية قرآنية نقلية؛ ولكن ترى أنها مستعملة بمقدمات عقلية، فالمسلمون يقرون بها باعتبار صدق المخبر وهي أنها قرآن من عند الله وهو أصدق القائلين، وباعتبارها مبنية على الترتيب العقلي كذلك؛ ولهذا يخاطب بها حتى الكفار.
ولهذا إذا سمع الكفار بعض مثل هذه الصياغات القرآنية ربما أسلم الواحد منهم عن مثل ذلك، كما ثبت ذلك في قصة جبير بن مطعم -كما في صحيح البخاري -: لما أتى المدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة المغرب بالطور، حتى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35].
فترى أن هذا القياس العقلي الضروري يدل على أن الله هو الخالق لهم؛ لامتناع أن يكونوا خلقوا من غير شيء، ولامتناع أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم؛ فيلزم ضرورة أن الله هو الذي خلقهم.
كذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] هذا اعتراض من بعض الكفار على مسألة المعاد، قال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] وهذا الخطاب للنبي قل للرد على المنكر وإن كان يستفيد منه ويتعظ به الجميع، لكن هو في الأصل هو رد على المنكرين: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] بمعنى أن الله خلق الخلق من العدم، فمن باب أولى أن يعادوا إذا كانوا رميماً، وهذا من القياس العقلي الضروري.
وهكذا القرآن تضمن كثيراً من ذلك، وهذا هو مقصود شيخ الإسلام لما قال: إن كثيراً من غلاة المتكلمين يقولون: إن دلائل القرآن والحديث دلائل خبرية محضة.
أي: ليس فيها تقرير عقلي، بل هي مجرد أخبار تصديقية، والحق أن القرآن والحديث بعضه خبري محض وبعضه خبري تصديقي من جهة المخبر به، لكنه من جهة ترتيب المقدمات فيه يكون عقلياً، أي: يخاطب سائر العقول.
وهذا يتعلق بكوننا نقول: إن مذهب السلف هو اعتبار هذا الباب -بل وغيره- بالكتاب والسنة، وقد ترى أحياناً أنه يقال: هذا الباب معتبر بالكتاب والسنة والإجماع.
وأحياناً يقال: هذا الباب معتبر بالكتاب والسنة، ولا فرق بين الأمرين؛ لأن الإجماع لا بد أن يكون عن نص من الكتاب أو السنة.
هذا هو معتبر أهل السنة في هذا الباب؛ ولهذا لو قيل: ما موقف أهل السنة من العقل؟ قلنا: لم يبطل القرآن مسألة العقل من أصلها، فإن بعض دلائله -كما أسلفت- مركبة على الطريقة العقلية، وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى مسألة العقل، فهو أخص المدارك للوصول إلى الإيمان، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فقدم المدرك العقلي على مدرك السمع والبصر، وكذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46].
وفي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185] والنظر وإن كان بالبصر إلا أنه يرجع إلى المدرك العقل