المقصد الأول: بيان إسناد مقالة السلف

حيث ابتدأ المصنف رحمه الله رسالته بتقرير مقدمات، وقد تضمنت هذه المقدمات نتائج قطعية من جهة ثبوتها ومن جهة دلالتها، وهذه النتائج إنما كانت قطعيةً لأنها انبنت على مقدمات قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه المقدمات وما تحصل عنها من النتائج هي مقدمات نظرية، ويمكن أن نقول بعبارة أخرى: هي أوجه من النظر الشرعي والعقلي يتحصل بتحصيلها لزوماً صحة مذهب السلف، وبطلان مذهب المخالفين لهم.

وأما صحة مذهب السلف فيتحقق ذلك من جهة أن المصنف رحمه الله قرر أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنزله الله عليه من الكتاب والحكمة ..

من جهته هدياً، ومن جهته رسالةً سماوية ..

متفق عليه وقطعي بين المسلمين.

ثم يقول: فهذا القرآن الذي هو قطعي الهداية عند المسلمين، وهذه السنة النبوية التي هي قطعية الهداية عند المسلمين، لا بد أن يكون القول في أصول الدين قد تضمنه القرآن والسنة؛ ويمتنع أن يكون القرآن الذي نزل هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، ويمتنع أن تكون السنة النبوية التي هي خير هدي كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد ..

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد) تركا باب أصول الدين بغير إحكام ..

وهذا القطع ضروري.

ثم يقول المصنف: وقد اتفق المسلمون -حتى المخالفون للسلف كالمعتزلة والأشاعرة ..

إلخ- على أن القول في صفات الله وأفعاله من القول في أصول الديانة، فإذا كان من أصول الدين بإجماع المسلمين فإن أصول الدين قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ببيانها وإحكامها ضرورةً، وكذلك القرآن بين هذا الباب أتم البيان، وإذا فرض خلاف ذلك فإنه يعني: أن من أخص أصول الدين -وهو القول في صفات الله وأفعاله- ما لم يبينه الله في كتابه ولا بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته.

وترى أن هذا التحصيل تحصيل قطعي، فإذا تحقق أن هذا من القول في أصول الدين، وأن أصول الدين محكمة في الكتاب والسنة لزم من ذلك ألا يكون الناس محتاجين في هذا الباب -ولا في غيره، لكن في هذا الباب آكد- إلى شيء لم يتضمنه الكتاب والسنة، لا من جهة الدلائل ولا من جهة المسائل، بل هذا الباب دلائله ومسائله مقررة في الكتاب والسنة؛ لأنه أصل من أصول الدين.

وإذا كان متقرراً عند المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّم المسلمين الآداب العامة كآداب الأكل والشرب وأمثالها، وله في هذا سنة معروفة، فمن باب أولى أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قد علمهم وبين لهم، وأحكم القول في باب أسماء الرب وصفاته، والذي من خالف ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فإنه يقع إما في تعطيل الرب عن صفات الكمال، أو في تشبيه الخالق بالمخلوق ..

وكلا القولين من مقالات الكفار والملاحدة، بل كان جمهور المشركين لا يقعون في خطأ صريح في هذا الباب، بمعنى أنه كان -من حيث الجملة- مُقَرَاً به، وهذا يتعلق بجنس مسألة الربوبية لا بتحقيق تفصيلها؛ لأن القول في الصفات هو من القول في ربوبية الله تعالى.

فإذا كان هذا متحققاً فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألقى هذا البيان لأصول الدين -ومن أخص أصول الدين القول في الأسماء والصفات- وتلقاه عنه أصحابه، ومن هنا يعلم قطعاً بالتسلسل العلمي العقلي: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محكمين للحق في باب الأسماء والصفات؛ لأنهم تلقوا من الكتاب وعن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تحقق بالضرورة العقلية والشرعية أن القرآن والسنة فيهما البيان؛ فيلزم أن يكون الصحابة قد تلقوا هذا البيان والإحكام.

وفرض خلاف ذلك يلزم منه: أن يكون الصحابة إما أنهم لم يفهموا الحق، وإما أنهم قصدوا الإعراض عنه.

وكلا الوصفين ممتنع في حق الصحابة؛ لأن الله وصفهم بالعلم والإيمان؛ مما يدل على أنهم محققون لهذا المقام وأمثاله.

وقد علم تحقيق الصحابة رضي الله عنهم لأصول الإسلام، وهذا مستفيض متفق عليه بين جمهور الأمة إلا من شذ من الرافضة ونحوهم ممن طعنوا في جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً منهم.

وإذا كان الصحابة قد أحكموا هذا الباب وعرفوه؛ فيلزم أن يكون التابعون قد تلقوا ذلك عن الصحابة وأخذوا عنهم، وعدم ذلك إما أن يكون سببه: أن الصحابة كتموا الحق الذي علموه، أو أن التابعين أطبقوا على عدم الفهم أو الإعراض عن الأخذ عن الصحابة في هذا الباب ..

وكل من هذه الفروضات يعلم امتناعها.

وفي آخر زمن التابعين حدثت مقالة التعطيل، واتفق الأئمة إذ ذاك على إنكارها وردها، ثم بعد ذلك ظهرت مقالة التعطيل، وظهرت مقالة التشبيه، وكان موقف الأئمة الذين تلقوا عن التابعين من مقالة التعطيل ومقالة التشبيه موقفاً واضحاً متحققاً، وهو ذمهم لهؤلاء وهؤلاء، وأنهم وسط بين المعطلة والمشبهة.

فهذا التسلسل الإسنادي يعلم به: أن مقالة أهل السنة والحديث يتلقاها بعضهم عن بعض؛ ولهذا لما جاء المتأخرون منهم -كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - وتكلموا في هذا الباب فإن الكلام الذي قرروه منصوص عليه في كتب السنة المسندة، كالكتب التي عينها المصنف وذكرها في رسالته كالسنة لـ عبد الله بن أحمد، ولـ ابن أبي عاصم وأمثالهما ..

فهذا من جهة إسناد مقالة السلف؛ ولهذا تراه متسلسلاً، حيث أخذ كل أئمة عمن قبلهم من أئمة السنة والحديث، فتلقى الصحابة عن نبيهم، وتلقى التابعون عن الصحابة، وتلقى من بعد التابعين عن التابعين، ومن بعدهم عمن قبلهم، وهلم جرا، فتجده إسناداً متسلسلاً يحكون الاتفاق على هذا الباب ولا يذكرون في قولهم شيئاً من الخلاف.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015