[فما بقى يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق هو عطشان إليه قبله.
وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليداً لمعظمة هؤلاء.
وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي ..
هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.
ومن علم أن المتكلمين -من متفلسفة وغيرهم- في الغالب لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأنه حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه].
يعني: النظر في أهل الكلام وأمثالهم هو من وجهين عند المصنف:
الأول: مستحقون لما قاله الأئمة فيهم، كقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن كتاب الله وسنته وأقبل على الكلام.
الثاني: وهو من نظر إليهم بعين القدر، وذلك من جهة أن القوم ضلوا وقد أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً، وأوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهوماً وتحقيقاً في هذه المقامات الشرعية الفاضلة، فمن هذا يقع لهم مقام الرحمة، وهناك يقع لهم مقام العلم.
ودائماً طالب العلم بنظره ينظر بعين العلم تارةً وبعين الرحمة تارة، وهذا هو منهج الأنبياء، وهو منهج من آتاه الله علماً اختص به، كما في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65] فالناس يصلحهم مقام الرحمة والرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، وفي الصحيح: (إن الله رفيق يحب الرفق) وفي الصحيح: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) وهم كذلك يحتاجون إلى العلم؛ فإن الرفق إذا لم يكن بعلم كان تسهيلاً لضلال الخلق، ولم يكن منعاً لضلالهم.
[حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن كتاب الله وسنته وأقبل على الكلام.
ومن وجه آخر: إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم، أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون].
لا يعني إيراد هذه الآية أن المصنف يقصد أن المتكلمين يدخلون في مسألة الجحد، ولكن من باب القياس، فإن الكفار الذين آتاهم الله سمعاً وأبصاراً وأفئدةً ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ..
إلخ، فهذا من باب القياس لا من باب أن المصنف يجعل حكم المتكلمين كحكم الكفار.
وهذا التحصيل الأخير من المصنف يقع به لطالب العلم: أن من يشتغل بالنزعات العقلانية في هذا العصر يعرف أنه مهما حاول النظر والتحصيل فإن في القصص الماضية عبرة، وذلك من جهة أنك إذا نظرت إلى أئمة الكلام وقرأت في بعض سيرهم، أو نظرت في بعض كتبهم؛ تحقق لك أن كثيراً منهم كانوا على درجة بالغة من الذكاء والعقل، إلا أن النهاية التي حصلوها نهاية ساذجة بشهادتهم على أنفسهم، كما قال الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال ... .
وكما في قول الشهرستاني:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... .
فتجد أن هذه الشهادات من قوم نظروا وتوسعوا، ومن يتقحم هذا المسلك العقلاني في هذا العصر هم أولى بأن تكون نتيجتهم دون أو مقاربة للنتيجة التي تحصل عليها من تقحم هذا المسلك في زمن سبق، مع أنه يحافظ على الحقيقة التي تقدم ذكرها كثيراً، وهي: أن العقل لا يعارض النقل.
[ومن كان عليماً بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعداً.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ..
آمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين].