تسمية القدرية لأهل السنة مجبرة

[والقدرية يسمونهم مجبرة].

يسمونهم مُجْبِرة باعتبار قول أهل السنة في أفعال العباد، وقد كانت القدرية تقول: إن الله لم يخلق أفعال العباد -وهذا متفق عليه بين القدرية من المعتزلة وغيرهم- ثم تنازعوا أيقال: إن العبد يخلق فعله أم يسكت في هذه المسألة؟

وهذا في الحقيقة نزاع لفظي بين القوم، لأن الحقيقة العلمية للفريقين واحدة، وهي أن العبد يخلق فعل نفسه، لكن بعض أئمة المعتزلة تلكأ عن إطلاق هذا الحرف.

وقد ذكر الأشعري في مقالاته الخلاف بينهم، وذكر القاضي عبد الجبار بن أحمد في كتبه الخلاف بين أصحابه في هذا.

فصاروا يسمون السلف الذين أثبتوا أن الله هو الخالق لأفعال العباد جبريةً، وهذا فرع عن كون المخالفين للسلف في باب القدر قد ضلوا من جهة أنهم ظنوا أن الحق في هذا الباب لا يصح إلا في فرضين فقط: إما أن يكون العبد هو الخالق لفعله، وإما أن يكون مجبوراً على فعله ..

فهذا الظن في مسألة القدر هو الذي أوجب أن يقع الجمهور من أهل الكلام وأمثالهم في أحد هذين القولين، فترى أن المعتزلة قدرية في هذا الباب، ووافقهم على ذلك جمهور الشيعة الإمامية بعد المائة الثالثة.

وترى أن الجهم بن صفوان ومن تبعه على هذا القول، ومن تقلد هذا القول بنوع تخفيف كما وقع فيه الأشعري في آخر أمره، فإن الأشعري لما ترك المعتزلة، وأعلن توبته من الاعتزال كان قول المعتزلة من حيث القواعد العقلية متحققاً في نفس أبي الحسن، ولكنه رجع عن هذا القول من حيث الصورة العلمية التامة؛ بمعنى: أن القول الذي كان عليه أيام اعتزاله: أن الله لم يخلق أفعال العباد -كما تقوله المعتزلة- وأن العبد هو الخالق لفعله.

فلما رجع عن اعتزاله رجع عن هذا القول، لكن كانت الحقيقة العلمية -التي انبنى عليها هذا القول عند أبي الحسن - ثابتةً لم تتزلزل.

وهذه الحقيقة تنبني على القول في مسألة الإرادة، وهي تنبني على مسألة -أصلها نظرية فلسفية- صدور الأثر عن مؤثرين، فإن جمهور هؤلاء -جبريةً كانوا أو قدرية- نقلوا المقالة الفلسفية المشهورة: أن الأثر الواحد لا يصدر عن مؤثرين.

ومن هنا قال جبريتهم: إن الأثر من جهة الله، وأن العبد مجبور.

وقال قدريتهم: إن الأثر من جهة العبد.

وإذا كان الأثر من جهة العبد لم يكن الله قد شاء أفعال العباد وأرادها .. !

وبهذا يتبين أن غلط الطوائف في مسألة القدر ليس غلطاً من جهة النصوص، وهذه القضية ينبغي أن تؤكد، ولربما ينبغي أن تشاع في أوقاتها المناسبة حتى مع غير طلبة العلم المتخصصين، وهي أن الطوائف المنحرفة عن مذهب السلف -عن مذهب أهل السنة والجماعة- لم يكن موجب انحرافهم وخطأهم الذي وقعوا فيه: أنه اشتبهت عليهم دلالات من النصوص ففهموها فهماً -أي: من نصوص القرآن والسنة- وفهمها السلف فهماً آخر، فإن هذا تقرير ينبني على الجهل بحقيقة هذه المذاهب.

أي: أن هناك فرقاً بين الخلاف الفقهي، كاختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والزهري والثوري ..

إلخ، والذي يقع فرعاً عن النظر في دلائل الشريعة؛ ولهذا لا ينكر على أحد من المسلمين اتخذ مذهباً من المذاهب الأربعة أو غيرها وقلده لكونه ليس من أهل الاجتهاد، وليس من أهل إمكان النظر كعوام المسلمين الذين يقلدون الشافعي لكونهم من أهل الأمية العلمية، حيث لا يستطيعون النظر في الأدلة وتحصيل المسائل، أو من يقلد من أهل الإسلام أبا حنيفة رحمه الله، أو أحمد بن حنبل ..

إلخ، وإن كان طالب العلم الذي لديه قدر من النظر والإمكان ينبغي له أن يلاحظ الراجح من الأقوال، سواء كان الراجح قولاً للشافعية أو قولاً الحنفية أو قولاً المالكية ..

إلخ.

وإنما صح اعتبار كل مذهب في الجملة، وإن كان بعض الأقوال يعلم أنها مخالفة للنصوص، وذلك بسبب عدم ثبوت الدليل عليها عند إمام ما، كأن يكون أبو حنيفة لم يثبت عنده دليل في مسألة ما، وثبت هذا الدليل عند مالك ..

وهلم جرا في أسباب خلاف الفقهاء.

لكن في مسائل أصول الدين: فإن دلائلها الشرعية متواترة يمتنع عليها الخلاف، ويمتنع فيها الخلاف.

ففي مسألة الصفات -مثلاً- الدلائل الشرعية متواترة على إثبات الصفات، وليس في شيء من النصوص ذكر لمبدأ التشبيه الذي اتخذه هشام بن الحكم وأمثاله، ولا لمبدأ النفي والتعطيل الذي اتخذه من اتخذه من المعتزلة والأشعرية

وكذلك في مسألة القدر الدلائل الشرعية صريحة في أن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، بل إن الضرورة الحسية القاطعة تقود إلى أن العبد ليس مجبوراً، فإن كل من فعل فعلاً يرى من نفسه القدرة على هذا الفعل والقدرة على تركه؛ ولهذا من حكمة الشريعة: أنه إذا لم يصل الأمر إلى حد الجبر لكن تخلف تمام القدرة البشرية سقط التكليف؛ ولهذا لم يكلف الصبي في دين الإسلام إلا إذا بلغ، مع أنه قبل البلوغ لديه قدرة أن يصلي أو لا يصلي، ومع ذلك إن صلى قبل بلوغه فهذا من أدب الإسلام الذي يؤمر به، ويضرب عليه لعشر كما جاء في حديث عمرو بن شعيب، لكن لا يمكن أن يقال: إن الصبي إن ترك الصلاة قبل بلوغه يكون آثماً، ولهذا إذا مات الصبي قبل البلوغ فهو من أهل الجنة؛ لأنه اتفق أهل السنة على أن صبيان المسلمين في الجنة.

إذاً: الشريعة لم تكلف الصبي إلا بعد بلوغه؛ لنقص تمام القدرة والإرادة والانضباط فيها عندهم.

كذلك النائم رفع عنه التكليف، وفي حديث عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

إذاً: التكليف في الشريعة مرتبط بثبوت القدرة على وجه صحيح، لا يدخله النقص والكلفة التي تؤثر في إمكان العمل، أو يكون فيه مشقة متناهية في تحقيقه؛ مما يدل على أن مسألة الجبر مسألة ممتنعة، أي: أنه من الممتنع أن يكون الله قد جبر العباد على أفعالهم ويعاقبهم على معاصيهم؛ لأن هذا ليس من عدل الله، والعبد بالحس والفطرة يدرك أنه مختار، وأنه يستطيع أن يفعل هذا ويستطيع أن يترك هذا ..

وهلم جرا سواء، كان الفعل خيراً أو شراً.

فمذهب الجبر: مذهب يعلم بطلانه بالضرورة الحسية والعقلية والفطرية، فضلاً عن الحكم الشرعي.

كذلك المذهب القدري -الذي يقول: إن العبد هو الخالق لأفعاله- مذهب يدل على فساده العقل والفطرة والشريعة، من جهة أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق للعبد، وهو الخالق لإرادة العبد ولقدرته، فإذا كان هو الخالق سبحانه وتعالى للعبد وما فيه من القوى التي يتحصل بها الفعل؛ فمن تمام ذلك أن يقال: إنه هو الخالق لأفعال العباد.

وكونه سبحانه هو الخالق لأفعال العباد، وأنها بمشيئته وإرادته لا يعني القول بأن العبد ليس فاعلاً حقيقة، بل العبد فاعل على الحقيقة، ولا تعارض بين المقامين لا في العقل ولا في الشرع.

إذاً: مخالفة هذين المذهبين -المذهب القدري والمذهب الجبري- ليست فرعاً عن إشكال من النصوص، بل لقد جاءت تحت بعض القواعد الفلسفية التي دخلت على المسلمين أيام الترجمة، كقاعدة: إن الأثر الواحد لا يصدر عن مؤثرين، أي: إما أن يكون الأثر من الله أو من العبد ..

وعن هذه الشبهة الفلسفية التي دخلت على الجهمية والجبرية ومن بعدهم من الأشاعرة، ودخلت على المعتزلة والقدرية المتكلمة، رجح هؤلاء أثر العبد، ورجح هؤلاء الأثر من جهة الخالق.

أما قول أهل السنة والجماعة فليس هذا القول ولا هذا القول، بل هو على قوله تعالى:

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فقد وصف الله العباد بالإرادة، ووصفهم بالمشيئة: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] فأثبت لهم إرادةً ومشيئةً، ووصف سبحانه أن إرادتهم ومشيئتهم تابعة لمشيئته وقضائه وقدره.

فالمقصود: أن هذه المذاهب المخالفة للسلف في أصول الدين إنما يفرق القول فيها عن القول في الخلاف الفقهي؛ لأن الخلاف الفقهي كالخلاف بين الحنابلة والمالكية والحنفية ..

إلخ نشأ عن نظر في دلائل الشريعة، بخلاف الخلاف في أصول الدين كالصفات والقدر؛ فإن المخالف للسلف وأهل السنة ليس خلافه معتبراً بالنصوص، وإنما معتبر ببعض القواعد التي زعموها قواعد عقلية، وهي قواعد ملخصة من الفلسفة: كدليل الأعراض، والتركيب، والتخصيص في مسائل الصفات، وكدليل التأثير في مسائل القدر ..

وهلم جرا؛ وقد حظيت نظرية التأثير بدراسة مستفيضة في كتب المعتزلة والأشاعرة؛ لأنها هي المحك عندهم في هذا الباب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015