فيما يتعلق بأدلة القرآن فإن المنازعين في الجملة ينتهون فيها إلى التأويل، وأما دلائل السنة فإن من الطرق التي شاعت عند المتكلمين هو عدم قبول الخبر من أصله باعتبار أنه آحاد.
وهذه بدعة حدثت في المسلمين بكلام المتكلمين وأمثالهم ومن وافقهم من متأخري الفقهاء وبعض من تكلم في المصطلح فضلاً عن أهل أصول الفقه، بل إن هذا التقسيم بهذا الحد هو تقسيم مبتدع، أما تقسيم الأحاديث النبوية إلى متواتر وآحاد من جهته فليس فيه إشكال.
إذاً: الإشكال هو في الحد، فإنه إذا قيل في حد المتواتر: هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، والآحاد ما دون ذلك ..
فهذا حد مبتدع؛ لأنه تكلف في ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ليس لهذا الحد مثال في جمهور السنة، بل كما قال بعض متأخري أهل الحديث: أنه لم يقع له حديث يصل إلى هذا الحد، الذي هو حد المتواتر!
ثم نقول: ما هي ثمرة هذا التقسيم؟
إن كان يُقصد به ضبط مسائل الإسناد فإننا نرى أن أئمة السنة وأئمة الحديث الأوائل لم يستعملوه، ولكن ترى أنه يذكر لمقصد واحد، وهي مسألة الدلالة، وليس لمسألة ثبوت الحديث، ولهذا اتفق أهل الحديث على ثبوت بعض الأحاديث التي هي آحاد، بل على ثبوت بعض الأحاديث التي هي غريبة، فإنه لم ينقل عن إمام من أئمة السنة أنه طعن في حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) مع أنه غريب.
إذاً هذا الحد ليس له ثمرة من جهة الثبوت، يعني ليس المقصود من وضعه مسألة الثبوت؛ فإن من أكثر الكلام فيه وهم أئمة الكلام أصلاً ليس لهم اختصاص بمعرفة الثابت وغير الثابت من النصوص.
حيث إن أئمة المتكلمين ليسوا من أهل العلم بمسائل الإسناد والرواية والرجال والاتصال والانقطاع والتواتر وعدمه، وإنما قرروا هذا الحد في مسألة الدلالة، وعنه رتبوا مسألة الدلالة القطعية والدلالة الظنية، وعنه قالوا: إن ما يتعلق بالاعتقاد لا يقبل فيه إلا المتواتر.
وبهذه الطريقة منعوا قبول جمهور ما جاء في السنة النبوية في مسائل الاعتقاد، فهذا حد متكلف مبتدع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث الواحد من أصحابه بأصول الدين إلى قوم من أصناف المشركين، كما بعث دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى هرقل، فترى أن الذي قابل هرقل الكتاب، والكتاب نقله واحد، وهو الذي حمله دحية بن خليفة الكلبي.
إذاً: الحجة كانت تقوم شرعاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم بواحد ثقة؛ مما يدل على أن هذا الحد متكلف ومبتدع، فإنه لو كان لا يقبل في الاعتقاد إلا المتواتر لما كانت الحجة قامت على أهل اليمن ببعث معاذ إليهم ..
وهلم جرا في الأقوام الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من أصحابه.
ثم إنه ليس في دلائل الشرع ولا دلائل العقل أن الآحاد لا يقبل في الاعتقاد بحسب الحد الذي حدوه في الآحاد، وهو: أنه كل ما قابل المتواتر، بل على هذا الحد: جمهور السنة لا يقبل في العقيدة، بل على طريقة بعض أهل العلم الذي يقول: إنه لم يصلنا شيء من المتواتر اللفظي بحسب الحد الذي شاع عند المتأخرين.
إذاً: كأنه يقال: إن السنة لا تقبل في العقيدة!
ولهذا كان الاعتبار في القبول عند الأئمة رحمهم الله: بمسألة الصحة ومسألة تلقي الأمة له بالقبول، ولهذا كان حديث: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) مجمع على ثبوته باتصال سنده وصحته، ومن جهة أخرى بتلقي أئمة السلف له بالقبول وإنكارهم على من تأوله أو طعن فيه.
وكما أسلفت أنه ليس في دلائل الشرع ولا دلائل العقل دليل على هذا الحد، وحتى اللغة لا تفيده، فإن المتواتر هو ما شاع وتتابع، والتتابع هنا قد يكون تتابعاً في الرواية أو تتابعاً في القبول والعمل ..
إلخ.
وأما الاستدلال بمثل ما جاء في الصحيحين في حديث أبي هريرة: (لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -كما يذكره بعض المتكلمين، وهذا جهل بحقيقة حدهم هم- فانحرف من ركعتين، فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، ثم التفت إلى الناس فقال: ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: صدق يا رسول الله
إلخ) وفي رواية: (قالوا: صدق يا رسول الله! لم تصل إلا ركعتين) فمن يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به مستدلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعمل بخبر ذي اليدين لأنه واحد ..
يقال له: هذا ليس صحيحاً؛ لأنه على حدهم حتى مع خبر أبي بكر وعمر يبقى الأمر داخل دائرة الآحاد، لأنه بعد ما روى جماعة عن جماعة ..
وإنما هذا يفيد ما قرره كثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن الإمام إذا كان عنده يقين في نفسه فإنه لا يرجع إلى قول واحد في الصلاة ولو كان ثقةً ..
وهذا قول قوي، واستدلالهم بحديث أبي هريرة استدلال مناسب.
[مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
هذه المسألة أخص المسائل التي استدل بها المتأخرون على أن السلف يستعملون التأويل، فقالوا: لأنهم أثبتوا مسألة العلو والاستواء على العرش مع إثباتهم لمسألة المعية، وقالوا في المعية: إن الله معنا بعلمه في المعية العامة، أو مع أوليائه بنصره وتأييده في المعية الخاصة.
قالوا: فهذا من باب التأويل في المعية.