قول أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة

[وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون عليه في الذب عنه عندما يطعن عليه -فقال:-

فصل

في إبانة قول أهل الحق والسنة

فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة; فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.

قيل له:

قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ولما خالف قوله مخالفون; لأنه الإمام الفاضل; والرئيس الكامل; الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال; وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين; فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم.

وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا; وأن الله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا; وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور.

وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وكما قال: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]- وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا وذكر نحوا مما ذكر في الفرق.

إلى أن قال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إلى أن قال:

وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل: ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به ولا نقول على الله ما لا نعلم.

ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9].

إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابا بابا.

ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك; ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول: إنه مخلوق ولا غير مخلوق ورد عليه.

ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش فقال إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال تعالى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:158] وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:26 - 37] كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:16] ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء: لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض.

ثم قال:

فصل

وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه استولى وقهر وملك وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة; لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها- لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار; لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها.

وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل.

ثم قال:

باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين وذكر الآيات في ذلك.

ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته: مثل قوله فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك وقد دل عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده) وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده) وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة: بطل أن يكون معنى قوله تعالى: {بِيَدَيَّ} [ص:75] النعمة.

وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه].

كتاب الإبانة مشهور لـ أبي الحسن الأشعري، والجمهور من الأشاعرة وغيرهم على أنه كتاب صحيح معتبر للأشعري.

وإن كان بعض الناظرين في التصانيف قد تردد في صحة نسبته للأشعري، إلا أن هذا القول ليس بشيء، وإنما أذكره ليعرف غلطه.

وهو أفضل كتب الأشعري على الإطلاق، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن قال منهم -أي: الأشاعرة- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب للأشعري بدعة.

إذاً: كتب الأشعري على صنفين:

الأول: كتب مقاربة لطريقة أهل السنة وتصنيفهم، وإن كان فيها بعض التقصير في التفاصيل ككتاب الإبانة.

الثاني: كتب الميل فيها عن مسلك السلف وطريقتهم ظاهر، كما يقع له رحمه الله في اللمع والموجز، فقد غلط فيهما غلطاً ظاهراً، وقد استخدم فيهما طريقة كلامية محضة.

ومن المتحقق أن الأشعري لم يكن خبيراً بطريقة السلف؛ لأنه في كتابه مقالات الإسلاميين فصل مقالات الشيعة والخوارج والمعتزلة بتفاصيل مطولة، حتى إنه فصل قول أبي هاشم الجبائي، وقول النظام بتفاصيل مستفيضة، لكنه لما جاء لأهل السنة والجماعة أجمل قولهم إجمالاً، وهذا دليل قاطع على أن الأشعري وإن أعلن انتسابه لأهل السنة والجماعة إلا أنه لم يكن خبيراً بتفاصيل مذهبهم.

أما كتابه الرسالة إلى أهل الثغر، فهو كما قيل في الإبانة، وإن كان البعض قد تردد في نسبته إلى أبي الحسن الأشعري، وهو عبارة عن ذكر جمل وإجماعات أهل السنة، وإن كان أحياناً يذكر فيه بعض الإجماعات الغلط، لكنه في الجملة كتاب فاضل.

إذاً: كتاب الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر هما أجود كتب الأشعري، أما اللمع والموجز ففيهما أغلاط بينة.

وهذا التفصيل ينتهي منه البعض -أحياناً- إلى القول الذي قد يشاع تارةً: من

طور بواسطة نورين ميديا © 2015