قال المصنف رحمه الله: [وروى الأثرم في السنة وأبو عبد الله ابن بطة في الإبانة وأبو عمر الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وهو أحد أئمة المدينة الذين هم مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب.
وقد سئل عما جحدت به الجهمية:
أما بعد: فقد فهمت ما سألت في ما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحصرت العقول دون معرفة قدرته وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة.
وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان.
فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو.
وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى -يعرفه عارف أو يحد قدره واصف؟ - على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه.
الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر; لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] اعرف -رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها; إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] فصار يستدل -بزعمه- على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فقال: لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون.
إلى أن قال: - وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة; لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا.
وقال المسلمون: (يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب.
قالوا: لا.
قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا.
قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط وينزوي بعضها إلى بعض) وقال لـ ثابت بن قيس: (لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة) وقال فيما بلغنا: (إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم.
قال: لا نعدم من رب يضحك خيرا) إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه.
وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته: إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه -لا هذا ولا هذا- لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف.
اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة: فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا; ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا.
وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك -من ذكر صفة ربك- فلا تكلفن علمه بعقلك; ولا تصفه بلسانك; واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها; فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه: فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها.
فقد -والله- عز المسلمون; الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف; وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر; يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما بلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن.
وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمي وما وصف الرب تعالى من نفسه.
والراسخون في العلم -الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها- لا ينكرون صفة ما سمي منها جحدا ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا; لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين].
هذا النقل عن ابن الماجشون، وهو من كبار أئمة المدينة الذي يبين به أن طريقة أئمة المدينة وغيره من الأئمة مخالفة لطريقة المعتزلة والجهمية التي انتحلوها، وهو مصرح على التفصيل بإثبات صفات الله سبحانه تعالى والبراءة من طريقة التفويض، ومن باب أولى طريقة التشبيه والتعطيل التي يسمونها طريقة التأويل.