حقيقة الخلاف في مسائل أصول الدين بين أهل القبلة

بعض من يتكلم في مسألة الافتراق يفرض أن مسائل أصول الدين ليس فيها اختلاف بين المسلمين، وأن النزاع نزاع اجتهادي كالنزاع الفقهي ..

وهذا غلط، فإن مسائل الاجتهاديات والفقهيات -كما تقدم- يقال فيها بالتوسعة، ويسع فيها الاجتهاد، أما مسائل أصول الدين كالصفات والقدر والإيمان وأمثال ذلك فهذه لا يسع فيها الاجتهاد، بل يجب أن يلتزم فيها ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وإن كنا نقول: أنه يجب التزام ما دل عليه الكتاب والسنة حتى في الفقهيات، لكن من المعلوم أن الفقهيات المختلف فيها ليس فيها إجماع، وقد لا يكون فيها نصوص صريحة حاسمة قاطعة لا تحتمل الاختلاف؛ ولهذا اختلف فيها السلف ولم يختلفوا في الأصول.

فمن يحاول التقريب بين مسائل أصول الدين ومسائل الاجتهاد الفقهية ويقول: إن الخلاف هنا كالخلاف هنا، مستدلاً بأن هذا التفريق مبني على حديث ضعيف، وهو حديث: (افترقت اليهود) فإن هذا الكلام في حقيقته ليس بشيء: لا من جهة الواقع التاريخي، ولا من جهة النصوص النبوية؛ لأن الحديث وإن كان ضعيفاً فإن اختلاف أهل القبلة في أصول الدين يعد واقعاً تاريخياً لا يمكن النزاع فيه، ولا يمكن لأحد أن يجادل فيه، فإننا نجد أن المعتزلة متحيزة بنفسها، وأن الخوارج قد سلت السيف على الصحابة، وطوائف الشيعة أيضاً لهم شأن يطول، وكذلك المرجئة، والقدرية

إلخ، فهذا شأن يعد واقعاً تاريخياً أقرت به سائر الطوائف، فمحاولة القول بأنه ليس بشيء أو مبالغة أو تكلف ليس من باب المنطق العلمي الصحيح.

ثم أيضاً من جهة السنة النبوية؛ فإنه وإن تكلم بعض الحفاظ في ضعف حديث أبي هريرة وأنس وأمثالهم: (افترقت اليهود) ولو فرض أنه ضعيف فإنه قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم -وقد جاء هذا في الصحيحين من طرق كثيرة- قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) وفي رواية: (حتى تقوم الساعة) أعني: حديث الفرقة الناجية المنصورة، فهومما ثبت في السنة ثبوتاً قطعياً متواتراً، وقد أجمع عليه أئمة الحديث، ولم يطعن أحد منهم فيه؛ وهو دليل على أن هناك طائفة مختصة بالحق.

ثم يبقى المخالفون لهم: هل عدتهم كما ذكر في حديث الافتراق فيكون عدد الطوائف غير هذه الطائفة ثنتين وسبعين فرقة أم أنهم أقل من ذلك أو أكثر؟

نقول: إذا كان حديث افترقت اليهود ضعيفاً فإن الجزم بهذا العدد يضعف، أما أن هناك طائفة مختصة باتباع الكتاب والسنة وموافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هناك طوائف خالفتهم في أصول الديانة فهذا متحقق بهذه النصوص التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة.

ولهذا من فقه السلف أنهم لم يشتغلوا بتعيين الفرق المخالفة الثنتين والسبعين، وإنما اشتغل بتعيينها بعض المتأخرين من الفقهاء، وبعض المتكلمين الذين جعلوا طائفتهم هي الفرقة الناجية المنصورة المصيبة للحق، وجعلوا غيرهم من أهل الاختلاف والضلال.

إذاً: لا يجوز التساهل في الاختلاف في أصول الديانة، وهذا لا يعني الاستطالة على أحد من الخلق، فإن الرسل بعثوا بالرحمة والعلم، ولهذا وصف الله نبيه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فهذا باب لابد فيه من الاعتدال والضبط.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015