[والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل].
قوله: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل يمكن أن نقول بعبارة أخرى: أن النصوص الواردة يمتنع فيها التأويل.
ونضرب لهذا مثالين: في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.
فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) والمخالفون من المعتزلة والأشاعرة لا يثبتون هذا النزول لائقاً بجلال الله سبحانه وتعالى، بل يتأولونه.
فمنهم من يقول: ينزل ملك من ملائكته.
نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا) فمن أين جاء المؤول بقوله: ينزل ملك؟؟
إن قال: لأن الله يمتنع عليه النزول.
قيل: الله سبحانه وتعالى ليس كذلك؛ لأنه نزوله ليس كنزول المخلوق.
ثم لو فرض جدلاً هذا فهل يعني امتناع النزول في حق الباري تعيين أن الذي ينزل ملك أو عدمه؟ الجواب: عدم التعيين؛ لأنه قد لا يكون في نفس الأمر، فقد يكون الذي ينزل ملكان أو جمع من الملائكة، فمن الذي قال: إنه ملك؟! وكذلك نقول لمن قال: تنزل رحمته أو أمره.
إذاً: التأويلات التي تفرض متعددة وهي مختلفة، ففرق بين قول من يقول: ينزل جبريل أو ينزل ملك، أو ينزل جملة من الملائكة، وبين قول من يقول: ينزل أمره، أو تنزل رحمته ..
فمن الذي عين واحداً منها؟
أي: هب جدلاً أن النزول ممتنع فمن الذي عين واحداً منها؟ وبأي دليل؟
ومن قال بأنه ينزل ملك وهو لا يدري هذا كذب؛ لأن الملك لا ينزل إلا بأمر الله.
إذاً: فكما أن تأويلاتهم ممتنعة هي في حقيقتها كذب -وهذا مطرد في كل التأويلات ولكن هذا مثال- لأن التأويل ليس هو الذي جاء بالنص، أي: أن المعنى الذي أول إليه النص ليس هو المعنى الذي ذكره النص، فإن النص ذكر نزول الله والتأويل ذكر نزول الملك، ونزول الله غير نزول الملك، والقرآن ذكر استواء الله والتأويل ذكر استيلاء الباري، والاستيلاء هو الملك، وليس معنى الاستواء هو معنى الاستيلاء، وهكذا بقية التأويلات.
إذاً: لما كان المعنى الذي يؤول إليه النص -وهذا باتفاق حتى المعتزلة ومن يوافقهم- هو في نفسه معنى غير المعنى الذي ذكره النص مضافاً إلى الله، أصبح عندنا معنيان: المعنى الذي أضيف إلى الله والمعنى الذي أول إليه النص عند المخالف، سواء كان هذا المؤول -الذي أول إليه النص- معنىً واحداً كاستولى، أو كان متعدداً كقولهم: نزول الملك، أو نزول الرحمة.
فيقال: إن المؤول كذب؛ لأن هذه النصوص نصوص خبرية تدور بين النفي والإثبات، فمن نفى المعنى الأول الظاهر في القرآن قيل له: هب أنه كذلك فمن أين أتيت بالمعنى الثاني في هذا السياق؟
ولهذا يكون المعنى الثاني كذب من حيث أن السياق القرآني أريد به، وإن كانت بعض المعاني هي من حيث هي صواب؛ فمن يقول: إن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، أي: ملك، أي: أن هذا بيان لملكه سبحانه للعرش فما دونه، يقال: ملكه سبحانه وتعالى للعرش وما دونه حق، لكن تفسير النص به في هذا المقام غلط على النص.
كذلك نزول الملك، فإن الملائكة تنزل من عند الله، لكن تفسير النص النبوي المعين به هو الذي يقال: إنه كذب في هذا السياق، فإذا قلنا: إنه كذب فلا يعني بالضرورة أن كل المؤولات هي في نفسها باطلة؛ فإنهم إذا قالوا: تنزل رحمته.
فإن الله أنزل رحمته كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدة في الأرض، وأبقى تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة).
فمثل هذه المعاني -أعني: معاني التأويل- بعضها قد يكون حقاً نطقت به النصوص، لكن تفسير سياقات معينة به هو الذي يقال: إنه كذب وغلط على النص.