[ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصف به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته].
ويلحدوا في أسماء الله وآياته أي: يميلوا بها عن الحق الذي قصد بها.
[وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل: فهو جامع بين التعطيل والتمثيل].
هذه قاعدة عند المصنف: أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل؛ وذلك لأن نفاة الصفات الذين هم المعطلة سواء كانوا نفاة للصفات نفياً محضاً كالجهمية وأئمة المعتزلة أو نفوا ما هو من الصفات كالصفات الفعلية عند الأشاعرة، يقال: إنهم لم ينفوا هذا النوع من الصفات بتقريرهم هم إلا لأنهم ظنوا -بل أوجبوا- أن إثباتها يستلزم التشبيه، أي: امتنع عندهم ثبوت هذه الصفات إلا مشابهةً للمخلوقين، فهم شبهوا أولاً وعطلوا آخراً، وإلا لو فقهوا أن هذه الصفات اتصف الرب سبحانه وتعالى بها، وببداهة العقول يعلم امتناع أن يكون الباري سبحانه وتعالى مشابهاً لشيء من المحدثات، فإن من عرف الله حق معرفته، وعرف أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا يحاط به علماً عرف أن هذه الصفات لا يمكن لأحد أن يدرك كيفيتها.
ويمكن أن توضح هذه القاعدة عند المصنف بتقرير آخر، وهي أن يقال: إن المخالفين ظنوا أن العلم بالصفة من جهة معناها يستلزم العلم بها من جهة كيفيتها، أي: أنهم رأوا أن بين العلمين تلازماً في هذا الباب، وهذا التلازم الذي ظنوه هو محل الوهم عندهم، وإلا لو حققوا الفرق بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية -كما عليه السلف رحمهم الله- لما تحصل لهم هذا الإشكال.
إذاً: دعوى أن هذا الإثبات تشبيه يدل على أن الكيفية معلومة، فمن قال: إن إثبات الصفة يدل على التشبيه أو يستلزم التشبيه، قيل: هذا الحكم فرع عن إمكان العلم بالكيفية، والعلم بالكيفية علم ممتنع، فلا بد من التفريق بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية، ولهذا ترى أن مالكاً رحمه الله صار قوله قاعدةً في هذا لما قال: الاستواء معلوم فهذا علم بالمعنى، قال: والكيف مجهول هذا نفي للعلم بالكيفية، فهذا التفريق هو الذي التزمه أئمة السلف وهو مما يظهر حذقهم العقلي والشرعي في هذا التقرير، أما أنه حذق شرعي فلأن الله أخبرنا بهذه الصفات ولم يخبرنا بكيفيتها، وكيفيته سبحانه وتعالى لا يحاط بها ولا يعلمها أحد من الخلق لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
فإن قال قائل: وهل أخبرنا الله بمعانيها؟
الجواب: نعم؛ لأنه لو لم يكن ذكرها في القرآن مضافةً إلى الله يقصد به المعاني المعروفة من جهة الإشراك العام لما كان لهذا الخطاب في القرآن معنى؛ ومما يدل على هذا أن كل صفة جاءت في القرآن إنما جاءت في سياق يناسبها، فإذا ذكر الله من كفر به وقتل الأنبياء قال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6] وإذا ذكر توبة المؤمنين قال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] فيذكر سبحانه من أسمائه وصفاته ما يناسب المقام؛ مما يدل على أن هذه الصفات على معانيها الظاهرة في القرآن، وإذا قيل: على معانيها الظاهرة فلا يعنى بذلك المعاني التي تضاف إلى المخلوقين، فإن هذه المعاني تليق بالمخلوق.
إذاً هذه القاعدة قاعدة شريفة: أن المعطل مثّل أولاً، أي: لم يفهم من الصفات إلا اللائق بالمخلوق فذهب ينفيه.
أما الممثل فهو معطل؛ لأنه لما مثل صفات الخالق بصفات المخلوق عطلها عن معناها اللائق بها.