قال المصنف رحمه الله: [فصل: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث.
ومذهب السلف: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد].
بعد أن ذكر المصنف رحمه الله المقدمة التي ذكر فيها أوجهاً يستدل بها على صحة مذهب السلف وبطلان مذاهب المخالفين، وذلك بأنه صوب مذهب السلف بالدلائل السمعية والعقلية فعُلم بذلك أن المذهب المخالف مذهب باطل، وهذا ليس من باب طريقة السبر والتقسيم التي تقدم ذمها من بعض الأوجه، فإن المصنف لما ذكر مذهب السلف وذكر المخالفين -سواءً كان المخالف يضاف إلى مذهب الكلاميين أو غيره- لم يستعمل الطريقة التي يستعملونها، بل استعمل الأدلة الشرعية والعقلية الدالة على صحة مذهب السلف، وهذا استدلال مفصل، ومعلوم أن هذه المذاهب تضاد هذا المذهب الذي دل الدليل على صوابه، فإذا كانت مضادةً له فإن الدليل العقلي القاطع يقضي بأن الضدين لا يجتمعان.
وهذه الطريقة طريقة محكمة في العقل: وهي الاستدلال على القول الحق بالدلائل الشرعية والدلائل العقلية المناسبة له، فإذا تحققت الدلائل الشرعية والعقلية على صحة مذهب السلف، ومعلوم أن المذاهب المخالفة في هذا الباب هي من باب الأضداد لهذا المذهب فإنه بإجماع العقلاء لا يمكن الجمع بين الضدين.
بعد هذا التقعيد، وبيان إسناد السلف وإسناد المخالفين، وبيان اتصال متأخري المتكلمين كالأشعرية وغيرهم بمتقدميهم، والاتصال بين متأخري المعتزلة كـ أبي الحسين البصري وأمثاله وبين قدماء أصحابه، وإن كان المتأخرون -كما يشير المصنف- لهم بعض الصوابات التي يفارقون بها قول الغلاة من المتكلمين.
بعد ذلك دخل المصنف في هذا الفصل ليقرر جملة قول السلف رحمهم الله في باب الأسماء والصفات بشيء من التقعيد والتفصيل، فذكر القاعدة التي التزمها سائر أئمة السلف، وهي أن الله سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث.
وهذا يقع في باب الإثبات، ويمكن أن نقول: أنه يقع في باب النفي باعتبار الدلائل التي أقرها الدليل الشرعي؛ ذلك أن الطريقة القرآنية النبوية التي عليها السلف رحمهم الله أنهم في ذكر صفات الله -في الغالب- يذكرون الصفات المثبتة على التفصيل، وأما باب النفي فإنه يذكر مجملاً ..
هذا هو الغالب على الطريقة القرآنية النبوية: التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي.
ولكن مع ذلك فإنه يقع في الطريقة القرآنية والنبوية إجمال في الإثبات وتفصيل في النفي.
أما الإجمال في الإثبات في الأسماء فهو في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] فهذا إثبات مجمل للأسماء.
وأما الإجمال المثبت في الصفات فهو في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل، أي: صفات الكمال، وهذا هو الذي يسميه من يسميه من متأخري أهل السنة بقياس الأولى، وتراهم يقولون: أنه يستعمل في حق الله قياس الأولى على هذا المعنى من القرآن، ولكن التسمية الأولى الشرعية أن يقال: أنه سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، أما تسميته قياساً فالأصل عدمها، ولكن إذا ذكرت من باب بيان قول أهل السنة في مسألة القياس أو من باب استعمال اصطلاح للمصطلحين فإن هذا -في الجملة- ليس به بأس.
وأما النفي المفصل فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فهذا نفي مفصل، ولكن كل نفي مفصل في القرآن فإنه يتضمن ثبوت كمال الضد، والظلم ضده العدل، فهو لا يظلم أحداً سبحانه لكمال عدله ..
وهلم جرا.
ومثله: قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فهو لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته.
والكمال المقصود يقارن النفي المفصل عند ذكره أحياناً، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] أي: لكمال حياته وقيوميته، أو لا يقارنه بالتصريح ولكن السياق والقواعد والأصول تدل عليه، كما في قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أي: لكمال عدله.
إذاً: القاعدة تقول: كل نفي مفصل في القرآن أو في السنة فإنه يتضمن أمراً ثبوتياً، وهو ما يقابله من الصفة التي هي صفة الكمال، وهي الصفة الثبوتية.
فهذه القاعدة هي المستعملة من حيث الأصل في مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف طريقة المخالفين، فإنهم في الجملة يجملون في الإثبات ويفصلون في النفي، والنفي الذي يستعملونه لا يتضمن أمراً ثبوتياً من الصفات، بل يكون نفياً محضاً.
وهنا يستعمل المصنف في تقرير مذهب السلف أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى من غير تكييف ومن غير تمثيل، ويقصد بهذا رد مذهب المشبهة والمجسمة.
وهذا المذهب -مذهب التشبيه والتجسيم- لم يكن فيه إشكال عند جماهير طوائف المسلمين لظهور فساده، ولهذا تقلده في مبدأ الأمر قوم من غلاة الشيعة الإمامية الرافضة كـ هشام بن الحكم وغيره، ثم إن الشيعة فيما بعد -في الجملة- تركوا هذا المذهب، وأصبحوا وجمهور الزيدية على مذهب المعتزلة.
وقد تأثر بهذا المذهب -أعني: مذهب التشبيه- محمد بن كرام وأتباعه.
لكن المذهب الذي أشكل هو مذهب النفي، ولا سيما بعد تقلد أبي الحسن الأشعري وجماعة من متكلمة الصفاتية له.