[وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة والفلاسفة].
وهذا من قوة ربط المصنف، وبهذا يتبين أن هؤلاء المتفلسفة الذين بعث إبراهيم في قومهم كانوا منحرفين في شيء من توحيد الربوبية، وهذا الانحراف ليس واقعاً في المشركين عبدة الأوثان الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا لم يخاصم محمد صلى الله عليه وسلم قومه كثيراً في مسألة الربوبية إلا أنه يقع ذكرها في القرآن؛ لأن القوم -أعني: مشركي العرب- يسلمون بها، ومن يسلم بالربوبية يلزم أن يسلم بالألوهية، أما في قوم إبراهيم فالأمر ليس كذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:75 - 78] فكان قوم إبراهيم -والذين كان الفلاسفة أئمتهم- منحرفين في توحيد الربوبية، كما أنهم منحرفون في توحيد الإلهية.
[وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته].
أبو نصر الفارابي ليس من المتكلمين، بل هو من المتفلسفة الذين يضافون للإسلاميين، وهو قبل الحسين بن عبد الله بن سينا، وهو يعد أشهر المتفلسفة؛ وهم يلقبونه بالمعلم الثاني؛ لكونه رتب المنطق وقربه إلى أهل الإسلام، ويعنون بالمعلم الأول أرسطو طاليس، وقد جاء ابن سينا بعده، لكنه غلبه في الشهرة وكثرة التصنيف.
[وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره-].
ذكر هذا الإمام أحمد في رسالته الرد على الزنادقة، وهي رسالة مشهورة لطيفة ليست بالطويلة، وقد تكلم بعض أهل العلم في صحتها، وذكر الذهبي شيئاً من ذلك عن طائفة، لكن شيخ الإسلام رحمه الله يعتبرها ويعتمدها ويجزم بصحتها إليه، ولهذا نشرها في كتبه وعلق عليها كثيراً، وخاصة في كتبه الكبار.
[لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند -وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات- فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة، والضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين.
ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقوه في قلوب أشباههم].
شاعت هذه المقالة خاصة لما تقلدها المعتزلة؛ لأن الجهم بن صفوان لم يتحصل له أتباع، أي: أنه لم يشكل مدرسة متكاملة لها تنظيمها وترتيبها وأتباعها باطراد، بل كان -إن صح التعبير- صاحب نظرية، لم يكن لها حظها إذ ذاك حتى عند السلاطين في بني أمية، وهو كذلك كان معارضاً لهم مارقاً على خلافتهم، لكن لما تقلد هذه المقالة المعتزلة؛ وخاصة أن المعتزلة مع أنهم أخذوا مقالة الجهم بن صفوان إلا أنهم ذموه في كتبهم؛ لأنهم يختلفون معه في مسألة الإيمان، ومسألة القدر، حتى في الصفات لهم بعض الاختلاف الصوري معه، وإن كانت حقيقة المذهب واحدة.
ولهذا كان من فقه السلف رحمهم الله أنهم سموا كل من نفى الصفات جهمياً وإن كان معتزلياً، ولهذا قالوا: فتنة الجهمية مع الإمام أحمد.
مع أن أئمة المناظرة كانوا من المعتزلة، وإن كان ينبه إلى -كما قرر ذلك شيخ الإسلام - أن الذين اشتركوا في فتنة خلق القرآن ليسوا معتزلة محضة في سائر الأحوال، بل منهم معتزلة ومنهم من هو جهمي يميل إلى الإرجاء في مسائل الإيمان وغير ذلك.