روى الإمام أحمد والبزار من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله عز وجل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم -أما نحن فلا نعلم- فقال صلى الله عليه وسلم: الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور ووتتقى بهم المكاره)، فالفقير الذي هاجر إلى الله ورسوله إذا أمر أن يخرج للجهاد خرج، وإذا أمر أن يسافر للمكان الفلاني سافر، وإذا قيل له: اسكت عن كذا، يسكت، فهو فقير ليس من ذوي الرأي، ولا من كبار القوم الذين يأمرون، بل هو من صغار القوم الذين يُؤَمرون، سواء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد ذلك، قوله: (وتتقى بهم المكاره)، أي: هم الجنود دائماً، ومعلوم أن القائد في الجيش يكون، في مؤخرة الجيش؛ يحميه الجنود، فهؤلاء تتقى بهم المكاره، ثم قال: (ويموت أحدهم حاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء)، فالفقير المسكين قد تشتهي نفسه أن يأكل أكلة معينة، أو يلبس لبساً معيناً، أو يتكلم في حاجة معينة، لكن بسبب فقره لا يسمع إليه أحد، ولا يجد ما يشتري به هذا الطعام، ولا هذا الشراب ولا هذا اللباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يموت أحدهم وحاجته في صدره)، أي: لا يستطيع أن يأتي ما نفسه فيه، وأكدها بقوله: (لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم)، أي: أن الله يدخل الجنة الإنسان الذي كان في الدنيا فقيراً، مجاهداً في سبيل الله، قد عمل الصالحات، وأعطى في الدنيا كثيراً، ولم يأخذ منها إلا القليل حسب الظاهر، ولكن الحقيقة أن الله أعطاه الكثير، إذ يكفيه الإيمان الذي قلبه، والصبر الذي هو عليه ليس منه، بل هو من الله سبحانه الذي أعانه على الصبر على الدنيا، وكانت تكرمته الجنة، فإذا أدخله الله عز وجل الجنة أمر الملائكة أن يأتوا إليه، وأن يسلموا عليه ويحيوه، فتقول الملائكة لربها سبحانه تبارك وتعالى: (ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك! أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟)، والملائكة خلق من خلق الله، خلقهم من نور، وهذا شيء أعظم مما خلق منه الإنسان، فهو مخلوق من طين، وكأن الملائكة نظروا إلى أن الله كرمهم وخلقهم من نور، وجعلهم أهل سماواته سبحانه تبارك وتعالى، وجعلهم خيرته، وهؤلاء عباد مخلوقون من طين، وقد أذنبوا في الدنيا، وأصابهم فيها ما أصابهم، فكيف نذهب إليهم؟ -يستفهمون من ربهم سبحانه وتعالى- فيقول الله عز وجل: (إنهم كانوا عباداً يعبدونني، ولا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور)، يري الله الملائكة كيف كان هؤلاء على خير في هذه الدنيا، وكيف أنهم كانوا عباداً لله، يعبدون الله ولا يعبدون أحداً إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يشركون به شيئاً وتسد بهم الثغور، وفي الحديث صورة لائقة لهؤلاء في قوله: (تسد بهم) فلو أن قربة مغلقة انخرقت ثم نزل منها الماء وأخذ يخرب في الدنيا فمن سيقوم بسد هذا الخرق؟ لقد كان هؤلاء هم الذين تسد بهم هذه الثغور يعني: الشرور التي تأتي من أعداء الإسلام عن طريق الثغور، فالله عز وجل جعل هؤلاء أسباباً لسد الثغور وكف الشرور، قوله: وتتقى بهم المكاره، يعني: أمة الإسلام تتقي بهؤلاء المكاره فهم في المقدمة دائماً، يدفعون ويدافعون ويموتون شهداء في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، أو يموتون على فرشهم قد طلبوا فضل الله ورحمته سبحانه.
قوله: (ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء)، وبذلك عرفت الملائكة فضل هؤلاء، فأتتهم عند ذلك، ودخلوا عليهم من كل باب، هؤلاء في الجنة في قصورهم، في أماكنهم ينعمون والملائكة تأتي عليهم أفواجاً من كل باب من أبواب قصورهم ومنازلهم في الجنة يحيونهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24]، أي: سلام عليكم، بسبب صبركم تستحقون السلام، والأمن، وتستحقون أن تحيوا في هذا المكان فلا تموتون أبداً، فالله قال: (حيوهم)، يعني: ادعوا لهم بالتحية وبالحياة الكريمة عند الله والخلود في هذه الحياة فيدعون ويحيونهم: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع هؤلاء الأبرار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.