ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الحاكم عن معقل بن يسار، وروى مثله ابن ماجه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ربكم: يابن آدم تفرغ لعبادتي)، أي: فرغ قلبك وأقبل علي وحدي، فتكون في كل أحوالك ناظراً إلى ربك سبحانه، مراقباً له، خائفاً منه، تعمل ما يرضيه سبحانه وتعالى، فهذا هو التفرغ لعبادة رب العالمين، فإذا فعلت هذا فالنتيجة هي ما جاء في الحديث حيث قال: (أملأ قلبك غنى وأملأ يديك رزقاً)، فإذا امتلأ القلب غنى فلا يحتاج الإنسان إلى شيء بعد ذلك؛ لأن الغنى هو غنى القلب، فالإنسان إذا كان مفلساً لا شيء معه وقلبه غني فإنه سيشعر أنه ملك، وأنه أفضل من جميع من معه مال؛ لأن من معه مال يحتاج إلى أن يحرس ماله، أما هذا فلا يحتاج أن يحرس شيئاً؛ لأن القلب ممتلئ غنى، أما إذا ملأ الله قلب الإنسان فقراً وحاجة، فإنه سيشعر أنه فقير ولو كان من أغنى الناس؛ لأنه يحس أن ماله سينفد، وأن هناك أمراضاً يمكن أن تصيبه، فيظل يكنز ويكنز ولا يشبع أبداً.
إذاً: الغنى هو غنى القلب والفقر هو فقر القلب، وربنا يعدك أنك إذا تفرغت للعبادة وأحسنت فيها فإنه سوف يملأ قلبك غنى، ولم ينته الأمر عند غنى القلب فقط، بل وفوق ذلك قال: (وأملأ يديك رزقاً)، أي: سأملأ القلب واليدين.
ثم قال: (يابن آدم لا تباعد مني)، يعني: لا تتباعد مني، فالكلمة فيها إدغام للتاءين، (لا تباعد مني فأملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً)، فالإنسان الذي يتباعد عن الله فيسمع المؤذن يؤذن فيقول: أنا لست فارغاً، بل ورائي شغل أريد أن آكل أو أريد أن أشرب، كيف أترك العمل وأنا محتاج إليه؟ فمثل هذا سوف يظل محروماً طول حياته؛ لأن الله يقول: (لا تباعد مني) فإذا تباعدت عن الله عز وجل فالنتيجة هي: (أملأ قلبك فقراً)، أي: ستحس أنك فقير دائماً مهما كان معك من أموال كثيرة، وفوق هذا (أملأ يديك شغلاً)، سبحان الله! البعيد عن طاعة الله سبحانه وتعالى يحدث له عكس ما يحدث للمتفرغ لطاعة الله سبحانه، فتجده كثير العمل، يشتغل هنا وهناك، وفي النهاية لا يجد معه شيئاً من الأموال؛ لأن الله يبتليه بالأمراض وبالإنفاق على العمال وغير ذلك، فلا يبقى معه شيء؛ لأنه ابتعد عن الله تبارك وتعالى.
وفي رواية أخرى للحديث وردت عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيها: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لا تفعل)، أي: إذا لم تعمل بهذا الشيء فلا تلم إلا نفسك، قال: (ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك).
وروى أحمد وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان إنهما ليسمعان أهل الأرض إلا الثقلين)، أي: وقت شروق الشمس تطلع الشمس وبجوارها عن يمينها وشمالها ملكان يناديان في الخلق: (يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم -أي: أقبلوا إلى ربكم- فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى) يعني: الله سبحانه وتعالى يحذرك من أن تنشغل بالأعمال الدنيوية وتنسى العمل للآخرة بحجة مخافة الفقر أو عدم الكفاية، فإنه يبعث الملكين يناديان: (هلموا إلى ربكم فإن ما قل) أي: إن جاءك القليل وكفاك فهو خير من أن يأتيك الكثير الذي يطغيك، فيقول: (فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما غربت شمس قط إلا وبعث بجنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجل لمنفق خلفاً) فالإنسان المنفق الذي وعلى عياله، وعلى ضيفه، ينفق على جيرانه، ينفق من زكاة ماله، فيتصدق ويعطي، فالله يبارك له ويعطيه ويأمر الملكين بالدعاء له: (اللهم عجل لمنفق خلفاً)، يعني: إذا أنفقت الآن فإنه سوف يُسخر لك بعد قليل أكثر مما أنفقت، من فضل الله سبحانه وتعالى.
(وعجل لممسك تلفاً) يدعوان على الممسك المقتر البخيل الذي لا يؤدي زكاة ماله ولا ينفق صدقة ولا ينفق على عياله، فيدعوان عليه أن يتلف الله ماله.
وفي حديث آخر لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه ومثله عن أنس بن مالك ومثله عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت الدنيا همه: فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له).
فالإنسان مخلوق من أجل العبادة، فإذا نسي هذا الأمر وأصبح نهماً على الدنيا يريد أن يجمعها من أي جهة كانت، وأصبحت هذه الدنيا همه الوحيد فهذا جزاؤه ما سبق في الحديث، أي: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره)، فالذي يجمع لك الأمور ويؤلف بين القلوب هو الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجمع من شمال ويمين وربنا يفرق عليه هذا كله ما دام همه الوحيد هو الدنيا كما في الحديث: (فرق الله عليه أمره -الذي يجمعه- وجعل فقره بين عينيه)، يعني: أنه دائماً مستحضر الفقر يرى الفقر بين عينيه، مهما وجد معه من المال، (ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فلا تتعب نفسك وتحملها فوق طاقتها فتقصر في عبادة الله سبحانه، وتقول: المال المال، ولكن ابحث عن المال من حلال، واحذر الحرام، واحذر أن تضيع الدين وتضيع الطاعة فيضيع منك الجميع الدنيا والآخرة.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ومن كانت الآخرة نيته) يعني: يعمل ويطعم عياله يبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، (حتى اللقمة يجعلها في فِي امرأته كان له أجر)، كما ورد في حديث آخر، محتسب ذلك عند الله عز وجل، فهذا الإنسان الذي الآخرة همه يقول صلى الله عليه وسلم عن جزائه: (جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).
وفي حديث لـ ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه).
ولو أن كلاً منا في قلبه الآخرة، فسيدرك أن الله سبحانه على كل عمل يقوم به، فإنه إذا قام للصلاة تذكر: الله سيحاسبني على هذه الصلاة فيحسنها، وإذا صام أحسن الصيام، وإذا عمل أي عمل من الأعمال أتقن ذلك العمل، ولا من أجل أن يأخذ الجزاء من الناس، ليس من أجل أن يترقى، ولكن ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، فإذا كانت الآخرة على بال الإنسان دائماً فإن الله سوف يكفيه أمر دنياه، قال: (كفاه الله هم دنياه).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن تشعبت به الهموم)، يعني: نسي الآخرة وبدأ يفكر يريد أن يأكل ويشرب ويلبس ويريد كذا وكذا، ويعمل طول النهار وهو يفكر في أمور الدنيا، ناسياً ربه سبحانه فهذا يكون حاله كما في الحديث: (ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي واد أهلكه) يعني: في أي مكان هلك لا يبالي الله عز وجل به.
فالمؤمن قريب من الله، والله يحبه ويفرح بتوبته وبإقباله عليه، أما الإنسان البعيد عن الله سبحانه وتعالى فإن يهلك في أي واد لا يبالي الله به.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المقربين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.