الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام المنذري رحمه الله: [باب الترغيب في التوبة.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول! الله أوصني، قال: عليك بتقوى الله ما استطعت، واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء فاحدث له توبة؛ السر بالسر والعلانية بالعلانية) رواه الطبراني.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) رواه ابن ماجة.
وعن حميد الطويل قال: قلت: لـ أنس بن مالك: (أقال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة؟ قال: نعم) رواه ابن حبان.
وعن عبد الله بن معقل قال: دخلت أنا وأبي على ابن مسعود فقال له أبي: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الندم توبة؟ قال: نعم) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
هذه أحاديث آخر من كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري ذكرها في كتاب التوبة والزهد: باب الترغيب في التوبة، وقد ذكرنا أحاديث في الدرس السابق في التوبة، وذكرنا أن التوبة الصحيحة التي يتوبها الإنسان هي التي يكون فيها صادقاً، فيتوب إلى الله عز وجل ويندم على ما فعل من ذنب، ويعزم على ألا يرجع إلى الذنب مرة ثانية، وإذا كانت عنده مظالم يرجعها إلى أصحابها، فمن تاب من الذنب وأقلع عنه واستغفر وندم عليه وعزم على ألا يرجع إليه، ثم رد المظالم إلى أصحابها فقد تاب توبة صحيحة.
وهنا في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أوصني، فقال صلى الله عليه وسلم: عليك بتقوى الله ما استطعت)، وهذه أعظم وصية.
فالإنسان المؤمن يعلم أنه لا ينفعه شيء إلا أن يتقي الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا هو الذي ينفع عند الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، والقلب السليم: الذي يتوب ويرجع إلى الله سبحانه، والذي لا غل فيه ولا شرك ولا حسد لأحد من الناس.
فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم موصياً: (عليك بتقوى الله ما استطعت) يعني: قدر المستطاع، وما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
قال: (واذكر الله عند كل حجر وشجر)، يا ترى وأنت تمر في الطريق كم حجرة وكم شجرة تقابلها؟ والمعنى: دم على ذكر الله سبحانه، وكلما قابلت شيئاً في الطريق فأكثر من ذكرك الله سبحانه تبارك وتعالى؛ فكأنه يقول: داوم على ذكر الله وأكثر من ذكر سبحانه.
فعلى الإنسان أن يذكر الله سبحانه عند كل حجر وشجر، وفي كل مكان، سواء في أرض صحراوية فيها أحجار أو في أرض زراعية فيها أشجار، فاذكر الله سبحانه وتعالى في كل وقت، واذكر الله وأنت ترى آياته فهذا حجر جماد، وهذا شجر نبات ينمو، والله يخلق فيما يشاء ما يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فكلما رأيت آيات الله من جمادات وحيوانات ونباتات أكثرت من ذكره سبحانه تبارك وتعالى.
قال: (وما عملت من سوء فأحدث له توبة) المعنى: أنه لا أحد معصوم من الوقوع في السوء، ولكن بادر إلى التوبة، وهذا يعينك على ألا تعود إلى السوء مرة أخرى، فكلما وقع الإنسان في معصية رجع إلى الله وتاب إليه، فإذا أراد أن يعاود المعصية يتذكر أنه تائب إلى الله فلا يرجع إليها، معلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كلما وقعنا في ذنب أن نبادر إلى الله بالتوبة.
فليكن على بالك أمر التوبة إلى النهاية؛ حتى لا تقع في ذنب من الذنوب.
قال: (واذكر الله عند كل حجر وشجر، وما عملت من سوء فأحدث له توبة؛ السر بالسر والعلانية بالعلانية).
يعني: إذا عملت سوءاً في السر بينك وبين الله فتب إلى الله بالسر، واستر على نفسك، ولا تفضحها، فالإنسان إذا بات يعصي ربه ولم يره أحد فلا يصبح في النهار يحدث الناس بما صنع، فإذا سترك الله فاستر على نفسك.
فالإنسان الذي يعصي جهاراً أمام الناس قد يقتدون به في ذلك، فيكون عليه من السوء ما على هؤلاء الذين فعلوا السوء.
فالله عز وجل يأمرك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن تتوب في السر والعلانية، فإذا أذنبت في العلانية فتب إلى الله وقل: أستغفر الله وأتوب إلى الله ولن أعود إلى هذا الذنب مرة أخرى، وأخبر من رأوك أن ما فعلته خطأ حتى لا يقتدي بك أحد، فالإنسان إذا تاب علانية فإنه يكون قد قطع الأمر على غيره أنه يقلدوه؛ لأنهم قد عرفوا أن فلاناً عصى الله سبحانه ورجع عن هذا الذي فعله، فلا أحد يقتدي به في ذلك.
ولو اقتدوا به في ذلك فلعلهم يقتدون به في التوبة، فيتوبوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فأمر صلى الله عليه وسلم بالتوبة في ذنب السر سراً وفي ذنب العلانية علانية.
وقد جاء من حديث ابن مسعود: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه تبارك وتعالى، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، فيه أن المؤمن الذي يقع في الذنب ويندم فإن ذلك توبة منه لله عز وجل.
أيضاً جاء في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله)، فالله عز وجل له الجمال والجلال والكمال سبحانه تبارك وتعالى، والذي له هذا كله هو الذي يستحق أن يمدح، لذلك لا ينبغي لأحد من العباد أن يزكي نفسه، فكل عبد من عباد الله سبحانه فيه نقص، والنقص يليق بالإنسان، أما الله عز وجل فاللائق به هو الجلال والكمال والجمال، لذلك استحق سبحانه المدح والتعظيم، فيحب أن يمدحه عبده، ومن أجل ذلك مدح نفسه، فلو لم يمدحه خلقه فقد مدح وحمد نفسه سبحانه وتعالى، كما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2].
وكل إنسان فيه غيرة، كل بحسبه قد تزيد وقد تنقص، فالإنسان يغار أن تنتهك حرمات الله عز وجل أكثر من غيرته لأي أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش)، فالله سبحانه وتعالى يغار أن يقع العبد في فاحشة من الفواحش، ولو أن إنساناً رأى إنساناً يقع في فاحشة بحرمة من حرماته فقد يبادر إلى قتله، كما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزاني، وأنه يؤتى بأربعة شهود يشهدون عليه، فقال: (يا رسول الله! أنا أنتظر حتى يأتي أربعة يشهدون على ذلك؟ والله لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح -يعني: أضربه بحد السيف ليس بجنب السيف، وأقتل هذا الإنسان- فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال صلى الله عليه وسلم: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله)، فالله سبحانه تبارك وتعالى كريم حليم يحب العذر لخلقه، وكأنه يقدم لهم الآيات منه سبحانه حتى لا يبقى لهم حجة بعدها.
وقد أعذر من أنذر، يعني: بالغ في تقديم العذر، فقد يقال: سنعذرك فيما فعلت؛ لأنك لا تعلم، لكن حين نعلمك ونقيم عليك الحجة فإنه لا عذر لك، فقد أعذر، أي: أزال عذرك.
وفرق بين من التمس لك عذراً، وبين من لم يلتمس لك عذراً، فالله عز وجل يحب أن يعذر، يعني: يقيم الحجة إلى ألا يبقى لك أي حجة على الله ولا أي عذر عنده سبحانه تبارك وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) فعلى ذلك ليس لكم حجة؛ كما قال عز وجل: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].