روى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإن قتل في سبيل الله- فيقال لهذا العبد: أدِ أمانتك، فيقول: أي رب! كيف وقد ذهبت الدنيا؟!)، أي: من أين سأدفع الآن؟! فقد ذهبت الدنيا، وليس معي مال الآن، (فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية)، أي: التي قال عز وجل فيها: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]، فمصيره ونهايته الهاوية، فقال هنا: (فينطلق به إلى الهاوية) يعني: النار والعياذ بالله! وتتمثل له أمانته، ففي الدنيا يذكر أن فلاناً أعطاه وديعة فخانها ولم يعطها لصاحبها، وآخر أعطاه أمانة فخان في الأمانة ولم يعطها لصاحبها، وآخر باع له واعتمد على أمانته فلم يدفع الثمن وهرب من صاحبه.
وهكذا كل أمانة من أمانات الدنيا، وكذلك أمانات الدين.
قال: (وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه)، فيذكر أن واحداً أدى له ذهباً، والثاني أدى له فضه، والثالث أدى له كذا، فتمثل له هذه الأمانة أمامه وهو متوجه إلى النار.
قال: (فيراها فيعرفها)، فيجري وراء هذه الوديعة التي خانها في الدنيا، فيهوي في أثرها في النار، تهوي في النار وهو يهوي وراءها في النار، فيمسكها في النار، ثم يحاول أن يصعد بها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج من النار زلت عن منكبه وهوت في النار، فينزل وراءها في النار مرة ثانية، ولا يزال يصعد بها ويهوي في أثرها أبد الآبدين.
فأمر الأمانة خطير جداً، وما أكثر ما نرى من يصلي ويصوم ويزكي، وإذا جاء وقت الأمانة فهو خائن، فلا تقدر أن تمدحه، ولا تقدر أن تقول لمن سألك عنه: فلان أمين، فضع مالك عند هذا الإنسان، لا تقدر أن تقول هذا الشيء، هذا في الدنيا، وهذه العقوبة يوم القيامة، فكم من الناس من يأتي يوم القيامة وهو خائن، فيأتي الذي اختلس مليون جنيه، والذي أخذ ألف جنيه، والذي أخذ جنيهاً واحداً، والذي أخذ أقل من ذلك، ويقال له: هذه الأمانة فهات هذه الأمانة، فيهوي في النار ليأتي بها، فيحملها على منكبه، فإذا كاد أن يخرج زلت من على منكبه، ووقعت في النار، فينزل في النار ليأتي بها، ولا يزال كذلك أبد الآبدين إن لم يكن من الموحدين.
ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة -وأشياء عددها- وأشد ذلك الودائع.
يقول راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود رضي الله عنه؟ قال كذا وقال كذا، قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
لذلك احرصوا على أداء الأمانة، فمن وجد في نفسه القدرة فليتحمل، ومن لم يجد فليبتعد عن أخذ ودائع الناس وأخذ أموال الناس، وإلا فالجزاء كما سمعتم.
نسأل الله العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.