عن حذيفة رضي الله عنه قال: (أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ -ولا يكتمون الله حديثاً- فقال الرجل: يا رب! آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز -أي: السهولة في التجاوز والتغاضي- فكنت أيسِّر على الموسر، وأُنظِر المعسر) أي: أنه مع كل الناس إنسان طيب، فكان يصبر على الموسر ويتجاوز عن المعسر ويسامحه، ويصبر عليه فترة طويلة.
(فقال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي) هذا الحديث موقوف من قول حذيفة، وقد رواه غيره كـ عقبة بن عامر وأبو مسعود الأنصاري قالوا: هكذا سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: هكذا سمعوا هذا الحديث أن الله سبحانه تجاوز عن هذا العبد يوم القيامة لكونه كان يتعامل مع الناس بتيسير وليس بتعسير.
ومن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم السهولة والتيسير، فقد كان أحسن الناس قضاء ولذلك في حديث أبي هريرة في الصحيحين: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستدين؛ لكثرة الضيوف الذين ينزلون عليه وكثرة أهل الحاجة، ولا يوجد بيت مال عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينفق منه، ولهذا كان يستدين، ويقضي مما آتاه الله عز وجل من رزق، قال عليه الصلاة والسلام: (جعل رزقي تحت ظل رمحي)، فماله صلى الله عليه وسلم من الفيء ومن المغانم، كان يعطي منه لأهله النفقة الواجبة، وينفق على الناس صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يعطي أهل بيته صدقات ولا زكوات؛ لأنهم لا يحل لهم منها شيء، وكان يوزع الغنائم للناس الذين يأتون يطلبون منه، فقل أن يمر عليه وقت إلا ويستلف صلى الله عليه وسلم.
فجاء رجل قد استلف منه النبي صلى الله عليه وسلم ليتقاضاه ويطلب من النبي صلى الله عليه وسلم فأغلظ على النبي صلى الله عليه وسلم فهمَّ به أصحابه، أي: أن هذا الرجل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يطلبه ما عليه بطريقة سيئة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبر قليلاً حتى يأتي لنا مال، فإذا بالرجل يتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا محمد! هات ما عليك، فإنكم -يا بني عبد المطلب- قوم مطل -أي: أناس مماطلون- فلما قال ذلك قام الصحابة ليضربوه، فهدّأ الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة أن اصبروا، إن لصاحب الحق مقالاً) صحيح أنه أساء الأدب ولكنه صاحب حق فاصبروا عليه.
فصبر وأرانا حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، بل أعظم من ذلك أنه يعذر مثل هذا الإنسان المتهجم عليه بالكلام القبيح، ويقول: لا بأس إنه صاحب حق وله مقال، وليس من حق هذا ولا غيره أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، فصبر عليه وأمرهم أن يوافقوه وأن يؤدوا له الذي يريده فأعطوه مُسنَّاً مثل سنه.
ويطلق على الجمل أو الناقة عندما تبلغ سنة بنت مخاض، أو بنت لبون وهي التي تبلغ من العمر سنتين، أو حقة وهي التي تبلغ ثلاث سنوات، وجذعة عندما تبلغ أربع سنوات وهكذا، فإذا زادت في السن تكون أغلى في السعر.
فهذا الرجل سلَّف النبي صلى الله عليه وسلم سناً معيناً فقال: (اقضوه مثل سنّه أو أعطوه سنَّاً مثل سنّه، فقالوا: لا نجد إلا أمثل من سنه، أي: الذي عندنا أحسن من الذي أعطاه لنا -وكأنهم نظروا أنه لا يستحق؛ لأنه قليل الأدب، فلا يستحق أن نعطيه أحسن مما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم- فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أعطوه؛ فإن خيركم أحسنكم قضاء)، فأرانا حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع هذا الإنسان السيئ، وأرانا حلمه مع هذا الإنسان المتهور المتعجل، وأرانا حسن القضاء مع هذا الذي يعسر في طلب الحق الذي له، فأرانا النبي صلى الله عليه وسلم بعمله وخلقه أن الإنسان يتجاوز لعل الله عز وجل أن يتجاوز عنه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.