المثال الثاني: الروح

[وهكذا القول في المثل الثاني وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تسل الشعرة من العجينة.

والناس مضطربون فيها: فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن.

ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخلة في البدن ولا خارجة، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تُدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنه، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تُلحقها بالمعدوم والممتنع.

وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل.

قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها.

وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال].

يلاحظ أن أكثر كلام هؤلاء الفلاسفة على مختلف أنواعهم يدور على أوهام؛ لأن ما أشار إليه الشيخ من قولهم: بأن الكليات ممكنة الوجود.

مجرد افتراض بنوا عليه أحكاماً، وبنوا على هذه الأحكام لوازم، وهذه اللوازم جعلوها تنسحب على الوحي الذاتي، وتنسحب على المقررات العقلية القطعية، بل حتى الأمور المعلومة في الرياضيات وغيرها.

إذاً: الفلاسفة في الأصل أنهم يعتمدون على الأوهام والتخرصات، وهم الذين أشار الله إلى صنف منهم بقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:10 - 11] فالتخرُّص هو المنطلق الأساس في كل الأحكام الفلسفية في الأمور الغيبية عن مدارك العقول أو عن الحواس، وأن كل كلام فيها إنما هو ظن، والظن لا يُغني من الحق شيئاً، ولذلك لا نعرف الفلاسفة -هؤلاء الذين يتكلمون في الإلهيات- أنهم قد أصابوا الحق في شيء، فإن وافقوا ما جاء في الكتاب والسنة فذلك ليس من عندهم، بل إن أكثر ما قالوه يخالف الكتاب والسنة ومن براهين بُعدهم عن الحق وأنهم لا يصيبونه: أولاً: أنهم لا يملكون البرهان القاطع لإثبات أوهامهم؛ لأن الأمور الغيبية غير قابلة للتجربة ولا الأمور الحسية.

ثانياً: أن كبارهم الذين يُعتبرون أصحاب مذاهب مستقلة لا يمكن أن يتفقوا، إلا أن المقلد يتبع بعض الشيوخ، والحقائق لا تتعدد، إذاً ليس عند الفلاسفة حقائق.

وبرهان ذلك: ما نقرؤه عنهم في أقوالهم في الروح، فكلها أقوال خطأ، والروح لا يمكن أن يصل فيها الإنسان بعقله وذكائه وبعلمه إلى قول قاطع، ولذلك لما سأل أهل الكتاب والمشركون عن الروح، قال الله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] حتى ما علّمنا الله إيّاه من حقائق الغيب هو قليل بمقابل ما لم نعلمه؛ لأن الله عز وجل ما أطلعنا من أمور الغيب الكبرى إلا على ما نحتاجه، وما لنا فيه مصلحة، وما عدا ذلك -وهو أكثر الغيب- محجوب في علم الله، ولا يمكن أن تصل إليه مدارك الناس ولا عقولهم ولا تجاربهم، لا الحسية ولا العقلية، وكذلك الغيب الذي أُخبرنا به من الكتاب والسنة لا يمكن للناس أن يأتوا فيه بجديد إطلاقاً، فلا يزيدون فيه ولا ينقصون، ولا يتحكمون فيه بقول أكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وكل ما قيل في الأمور الغيبية هو رجم بالغيب، سواء من الفلاسفة أو من غير الفلاسفة.

قوله: (الكليات) أي: التصورات الكلية أو العامة، مثل: قول الفلاسفة بأنه لا يمكن أن يكون هذا العالم -المخلوقات الحسية- ناتجاً عن عاقل! وهذه كلية عند كثير من الملاحدة بما فيهم الشيوعيين.

وقد قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن فيها ما لا يجوز أن يكون، إذ أنه يقع في حياة الناس ظلم، ويقع في حياة الناس فساد، وهذا لا يمكن أن يكون على عاقل.

وهذا تصور فاسد، لكن مع ذلك تُعتبر تصوراً كلياً لا ينبني عليه حكم، ولذلك عنون أحد معاصريهم كتاباً له بـ (العالم ليس عقلاً)؛ لأنهم بنوا على افتراض وهمي، وهذا الافتراض إضافة إلى أنه فاسد، فهو أيضاً مجرد افتراض عقلي عام.

قال رحمه الله: [واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك: أن الروح -التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة- ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي تو

طور بواسطة نورين ميديا © 2015