نسبة القول إلى فرقة من الفرق لا ينفي وجود من يخالف فيه منهم

لكن ينبغي أن تفهم قاعدة في عموم ما سيرد من الكلام على الفرق، بل قاعدة في كل الكلام على الفرق، وهي مسألة مهمة ترجع إلى أصل -يجهله كثير من المعاصرين- من الأصول التي يتعامل بها السلف مع المخالفين وأهل الأهواء، وهي أنهم يحكمون على العموم، وإن وجد من لا يقول بهذه الأقوال من أهل الأهواء، أعني: أن السلف إذا قالوا: قالت الجهمية، فإنهم يعنون أحد أمرين: إما أن يكون قولاً مشهوراً عندهم، وإن اختلفت عليه في التفصيلات، أو يكون قولاً للأغلبية من الجهمية، وقد يرد احتمال ثالث وهو: أن يكون هذا القول لرءوس وكبار الجهمية، وكذلك المعتزلة، فكثيراً ما ينسب إليهم السلف أقوالاً، ثم يأتي بعض الجهلة ويقول: وجدت عند الجاحظ أو القاضي عبد الجبار أنهم لا يقولون بما يقول عنهم السلف، فنقول: هذا ناتج عن استقراء ناقص عندك، وناتج عن جهلك بقاعدة السلف، فالسلف ينظرون إلى العموم، فإذا نسبوا إلى المعتزلة قولاً فإنهم قد تثبتوا منه وخاصة الأقوال الشهيرة، لكن يكون إما قول أغلبهم أو قول رءوسهم، أو يكون قولاً التزموه في العموم، وإن اختلفوا في تفصيلاته، مثل: الأصول الخمسة التي لا يقول بها كل المعتزلة، بل وضعها لهم أحدهم، لكن في الجملة هي منهجهم، وكثير منهم قد يخالف بعض هذه الأصول، وعلى هذا فإن ما يثيره بعض المفتونين من دعوى أن السلف يفترون على خصومهم، وأنهم يتقولون عليهم، هذا ناتج عن جهل هؤلاء المفتونين، فالسلف حينما ينسبون قولاً إلى فرقة معينة، وخاصة الأقوال المشهورة، إنما ذلك بعد التثبت والاستقراء، وإلا فقد يزل الواحد من علماء السلف وقد يخطئ، لكن الكلام على ما اشتهر عند السلف من حكمهم على أهل الأهواء في مجملات الأمور، وكله راجع إلى هذه القواعد، من أنهم يرون أن المقولة إذا اشتهرت فإنها تنسب إلى العموم وإن خالفها بعضهم، وكذلك إذا قال بها الرءوس فإنها تنسب إلى العموم وإن خالف بعضهم، وأيضاً إذا قال بها الأغلب، فإنها تنسب إلى العموم وإن خالف بعضهم، وهذه قاعدة في كل ما يتعلق بنسبة الآراء إلى الناس، بل نجد ما حكاه الله عز وجل عن كثير من الأمور من المشركين والمنافقين واليهود والنصارى هو قول الغالبية أحياناً، أو قول مشهور لهم، ولو لم يكن قول الغالبية، وتأملوا ما وصف الله به كفريات اليهود والنصارى، مع أنها أقوال لبعضهم، وليست لكلهم، لكن لأنها معتمدة وهي المشهورة، أو قال بها شيوخهم أو رءوسهم، أو كانت قول الأغلب، فإنه يقال بها، لأننا لو استثنينا في كل شيء لفسدت المعاني، وعليه فكلما ننسب قولاً إلى المعتزلة ونستثني فسد المعنى، مع أن من المعتزلة من لا يلتزم نفي الصفات دائماً، بل منهم عدد كبير، وإن لم يكن أكثرهم يثبتون بعض الصفات أو يثبتون الصفات، فليس العبرة بمن خرج أو شذ، وإنما العبرة في الأصول والمناهج العامة، وأقول هذا لأنه تثار قضية الآن وهي: أن السلف قالوا عن المعتزلة ما لم يقولوا به، ودعوى أثيرت: أن من المعتزلة من يثبت الصفة، نعم من المعتزلة من يثبت الصفة، لكن ليست العبرة بهذا، وإنما العبرة بالعموم، فتجد الآن كبار العقلانيين وعلى رأسهم حزب التحرير معتزلة، بل إنهم أشد حماساً للاعتزال من المعتزلة أنفسهم، وقد ذكرت في أحد كتبي ما يدل على ذلك بالوثائق والنصوص، فمعتزلة العصر أشد اعتزالاً من الأوائل، وأثبت من خلال واقع تراجم الرجال أن المعتزلة الأوائل أكثر ورعاً وتعظيماً لله عز وجل وللدين، وللرسالة والسنة من المعتزلة الجدد، فهم معتزلة أكثر من المعتزلة؛ لأن أصولهم تقوم على ذلك، مع استثناء أشخاص لاشك، لكن هناك أشخاص يخرجون من القاعدة، لكن العبرة في التوجه، فالتوجه العقلاني المشهور الآن في العالم الإسلامي توجه اعتزالي بلا شك ولا ريب، وليس الأمر تقولاً عليهم؛ لأنهم كلهم -إلا النادر والنادر لا حكم له- يتباكون على المعتزلة، ويؤصلون قواعدهم ويمجدونهم، ويتفقون على أنه لا يمكن أن تنهض الأمة الإسلامية من جديد إلا أن تحيي تراث المعتزلة وتعمل به، وهذا شعارهم اليوم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015