قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن كان المخاطب ممن يقول: بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات].
يقصد بهؤلاء: متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فالأشاعرة يثبتون سبع صفات والماتريدية يثبتون مع هذه السبع صفة ثامنة يسمونها: التكوين، ويجعلون هذه الصفات حقيقية، وفي الوقت نفسه مع ثبوت صفات أخرى، مثل: المحبة والرضا ينازعون فيها، فمثلاً: (المحبة) يؤولونها بأحد أمرين، أو بأمور كثيرة، لكن أشهر التأويلات عندهم للمحبة: إرادة الإنعام، أو يقولون: هي النعمة، أي: أنها ثمرة محبة العبد لله عز وجل، يرونها هي ذات المحبة، عبر عنها بالمحبة مجازاً، وكذلك الرضا يدخل في معنى المحبة، والغضب والكراهة يؤولونها إما بالانتقام أو بإرادة الانتقام، ويجعلون التعبير عن النعمة بالمحبة مجازاً، وكذلك عن النقمة والغضب بالانتقام أو إرادة الانتقام، فيجعلونها مجازاً، أو يفسرون ذلك بالإرادة.
إذاً المقصود بمحبة الله عز وجل عند هؤلاء الناس: أن الله يريد إنعام العباد، أو بعض المخلوقات، وهي الآثار الظاهرة لمحبة الله عز وجل، مثل المطر وغيره، فيقولون: هذه آثار رضا الله عز وجل، وقد عبر عنها بذلك مجازاً.
والصفة الثامنة عند الماتريدية: التكوين، وهذه عقوبة من يحيد عن الصراط المستقيم، ولو في أمور جزئية إن صح التعبير، مع أن هذا ليس من الأمور الجزئية، لكن حينما حادوا عن إثبات الصفات اضطروا أن يأتوا بشيء من عندهم، وليس عندهم دليل على أن هناك صفة اسمها: التكوين، فهم ترددوا وخاضوا، بل تورعوا -بزعمهم- عن إثبات ما أثبته الله لنفسه، ولم يتورعوا أن يأتوا بصفة لا دليل لها من الكتاب أو السنة، وهي عندهم من مجموع الإرادة والقدرة، أي: من مجموع صفات ينتج عنها -بزعمهم- شيء اسمه: التكوين، وهو المتمثل بقول الله عز وجل: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر].
أي: يقال للأشاعرة والماتريدية: إنه لا فرق بين ما نفيتموه من المحبة والرضا والغضب والكراهية ونحو ذلك، وبين ما أثبتموه من الكلام والسمع والبصر ونحو ذلك، فما دام أنكم أثبتم شيئاً من صفات الله فيلزمكم أن تثبتوا الجميع، وما نفيتموه تنسحب علة النفي عندكم على ما أثبتموه، فإما أن تلتزموا قاعدة الفلاسفة المعطلة، وهذا شرط، وإما أن تلتزموا الحق، وهو الإثبات لكل ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله، فإن الله ليس كمثله شيء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.
وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوق، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قيل: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه، قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
فهذا المفِّرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي:] المقصود بالمعتزلي هنا: الذي يثبت أسماء الله وينفي صفاته سبحانه اللائقة بجلاله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ليس له إرادة ولا كلام قائم به].
يعني بذلك: أن المعتزلي ينص على أن الله مريد بلا إرادة -تعالى الله عما يزعمون- ومتكلم بلا كلام، وهذا في الحقيقة حيلة إلى التعطيل، وإن كان قد يقصدون به التنزيه، لكن ليس كل من ادعى أنه يقصد الحق يوفق للحق؛ لأن أمور المقاصد ليست هي التي توصل إلى الحق ما لم تكن على الاستقامة، نعم أمور المقاصد في الأمور المشروعة هي التي يبنى عليها الحكم، وأما المقاصد في الأمور غير المشروعة فلا تكون ذريعة للاعتذار عن مثل هؤلاء، أو اعتبار أقوالهم مشروعة، بل إن أقوالهم غير مشروعة وإن حسنت مقاصدهم؛ لأنهم يزعمون -وبعضهم قد يكون ممن يستهويه الشيطان- أنهم بنفيهم لصفات الله أرادوا التنزيه لله عز وجل، لكنا لا نوافقهم على ذلك، بل نقول لهم: ليس الأمر كما تزعمون، بل إن منتهى التنزيه لله عز وجل هو بالخضوع لما جاء عن الله وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والتسليم والرضا والتصديق بذلك.
إذاً: المعتزلي يقول: أنا أقول: إنه مريد، لكن يهدم قوله هذ