Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} [الأنعام:153]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16]؟
صلى الله عليه وسلم هذا كأنه استشكل أو تصور وتوهم أن هناك اختلافاً بين قوله عز وجل: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] وقوله عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها وتفسير ابن مسعود، وهو الصحيح، أي: أن المقصود: الصراط المستقيم فاتبعوه، ولا أظن أن هناك تعارضاً، أي: بين مسألة الهداية والإضلال من الله عز وجل ابتداءً، ومسألة تكليف العباد بأن يسلكوا سبيل الهداية ويتركوا طريق الضلالة، فهذا مما كلّف الله به جميع العباد وأمرهم به، ومع ذلك فمسألة الهداية مبنية على توفيق الله عز وجل ولا تناقض؛ لأنه قد يقول قائل: إذا كانت مبنية على توفيق الله، فكيف يُطلب منا أن نتبع الصراط ونهتدي به، مع أن هذا أمر مقرر قدراً؟! فنقول: قد سبق الكلام عن هذا، أي: عن مسألة تقدير الله عز وجل في الهداية والإضلال، السعادة والشقاوة، وقلنا: إنها مبنية على علم الله السابق عن كل إنسان ماذا سيفعل؟ فلما علم الله عز وجل عن هذا الكافر بأنه سيضل قدّر عليه الضلالة، يعني: كتبها عليه بناء على علمه سبحانه بأنه سيضل، وسيختار طريق الضلالة، وكذلك حينما كتب الله عز وجل السعادة والهداية على من سعدوا واهتدوا، فلسابق علمه عز وجل بأنهم سيهتدون في الاختبار وسينجحون في الاختبار، وهذا مبني على علم الله بمصائر العباد بالاختبار، فهذا الأول: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة:16] بأن الله عز وجل جعل اتباع الرضوان سبباً للهداية، والتي هي التوفيق، ومع ذلك أمر الجميع بأن يتبعوا الصراط فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فهذا أمر عام، من تبعه صار من المهتدين، وقدّر الله لهم ذلك، وضل من ضل فصار من الضالين، وقدّر الله عليهم ذلك بناء على علمه السابق، فلا تنافي بين هذا وذاك؛ لأن الفارق بين التقدير والاختيار فارق غيبي لا ندرك منه إلا ما تقوم به الحجة علينا، فالقاسم بين التقدير والاختيار للعباد قاسم غيبي لا يعلمه إلى الله عز وجل، لكن الفارق فيما يتعلق بأفعالنا أمر بين لكل ذي بصيرة، وهو أن كل عاقل يجد أنه قادر على أن يفعل الشر أو يفعل الخير، وكل عاقل يجد أن عنده تمييزاً فضلاً عن مسلم يدّعي الإسلام، فإنه إذا نظر في أدلة القرآن وأدلة السنة وجد أبواب الهداية مفتوحة، والتحذير من الضلالة بيّنة، وهو إن سلك أبواب الهداية فعن بصيرة مستجابة لأمر الله، ولم يُرغم عن ذلك إرغاماً، وإن سلك طريق الضلالة والعصيان فهو يعلم أن ذلك باختياره، ولم يرغمه أحد ولا ألزمه، ولذلك إذا فقد الإنسان عقله فلا يكلف؛ لأنه لم يعد عنده تمييز بين النافع والضار، بين الصالح والفاسد، والتمييز نوعان: تمييز فطري، ويكون في القضايا العامة، وتمييز شرعي، وهو الذي يُعرف بأدلة الكتاب والسنة، ومن هنا يؤتى كثير من الناس في تفريطه بالأخذ بأدلة الكتاب والسنة، فقد لا يعرف طريق الهداية؛ لأنه لم يتسبب في معرفته، وقد يقع في طريق الضلالة؛ لأنه لم يتسبب في معرفته ليتجنبه، وهذه كلها راجعة إلى أمور يدركها العباد في أنفسهم لو تأملوا وأنصتوا، أما جانب الغيب فهو أمر محجوب عن العباد، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كتابة مصير الإنسان عندما يبلغ (120) يوماً: شقي أو سعيد، قال الصحابة رضي الله عنهم: (فبم العمل يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسّر لما خُلق له)، فهناك جانب غيبي، وهو ماذا كتب الله لهذا العبد؟ فإن كان لا يدري، والغيب محجوب عنه، وعنده الأسباب وهي أمامه، فليسلكها، وكلنا الآن يُدرك، بل وكل عاقل يدرك ويجزم أن كل واحد منا يعلم أن المصير المكتوب غيب، كما كلنا يُدرك أيضاً أن سبيل الحق بيّن، وسبيل الضلال بيّن، فإذاً: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، والله أعلم.