Q ما رأي الشيخ في مسألة تقنين الشريعة؟
صلى الله عليه وسلم مسألة تقنين الشريعة من الأمور التي تحتاج إلى شيء من التفصيل، فأولاً: يختلف مفهوم تقنين الشريعة بين علماء الشريعة اليوم وقبل اليوم، فبعضهم يقصد بتقنين الشريعة: عنصرتها ووضعها على شكل فقرات واضحة عند القاضي أو المحامي أو طالب العلم أو غيرهم، بمعنى: وضعها على شكل مواد تشبه المواد القانونية، لكنها فقهية خالصة، فيضم بعضها إلى بعض، وتضم إلى اجتهادات المعاصرين، وتضم إليها المسائل التي تتعلق بالأنظمة الحاكمة عليها، مثل: نظام الحكم، نظام الحكم عندنا الآن ولله الحمد إسلامي شرعي يعتمد على الكتاب والسنة في أكثر من مادة، فمن الممكن مثلاً التقنين، فتربط الأحكام الفقهية بالأصول التي قام عليها هذا النظام، وذلك من باب أنها قواعد شرعية عامة متفق عليها، أو أنها قواعد عامة تنبني على قواعد الشرع، وهذا النوع من التقنين قد يكون سائغاً إذا توافرت الضمانات في ألا يؤدي ذلك إلى مرحلة الخروج من مقتضى الشريعة.
وهناك نوع آخر من التقنين: وهو إعطاء القوانين صفة الشرعية، المسألة عكسية، بمعنى: محاولة تسويغ القوانين وتعديلها، وجعلها نفس المواد، مثل: القانون المصري، فإنه يدّعي بعض واضعيه أنه ينسجم مع المذاهب الفقهية خاصة المذهب الحنفي، وهذه في الحقيقة دعوى عريضة، مع أنك إذا اطّلعت فيه لم تجد فيه من علامات الفقه والشرع سوى في المضامين أو الصياغة، إلا ما يتعلق بالنزعة الإنسانية فقط، فتجد حماية الأخلاق، والعدل، ودفع الظلم، وهذا كلام مجمل تقوله جميع الأمم، لكن لا تجد في هذه القوانين التي رأيتها مصطلحات فقهية شرعية، ويريدون أن يعطوها صفة القانون! بل ويقول لك: إنها تنسجم مع القواعد العامة للمذهب الفلاني.
مع أن عبارة: (القواعد العامة) فضفاضة، فتجد مثلاً القانون الفرنسي والقانون الإنجليزي والقانون المصري الذي يدّعون أنه ينسجم مع الفقه سواء، ولا تجد بينهما فرقاً، فهذا النوع من التقنين لا شك أنه خطير، وليس هو المقصود عندنا -ولله الحمد- في هذا البلد، وأكثر الذين يتكلمون عن التقنين من طلاب العلم أو المشايخ -وهم قلة- يقصدون النوع الأول، والذي هو: وضع الأحكام الفقهية على شكل مواد تقرب للقاضي والحاكم والناظر والمستشار والباحث المسائل الشرعية، بشكل يتناسب مع مستجدات العصر الإدارية والأساليب والوسائل التي تتجدد، فمثلاً: القضاء، فلابد أن يحكم قضايا المرور، وقضايا الاقتصاد، وقضايا الطب الحديث وغيرها؛ لأننا إذا أخذنا زاد المستقنع أو شرح الزاد لا نستطيع أن نأخذ منه أحكاماً واضحة لمعالجة مشكلات معاصرة، مثل: صدام السيارات، فلا يوجد في الفقه القديم أحكام تنص على ذلك، لكن توجد له قواعد ونظائر، لذا فهم يريدون بالتقنين: جعل هذه القواعد والنظائر على شكل مواد تُريح من التخبيط والاجتهاد الخاطئ الذي يكثر في تطبيق القضايا المعاصرة على القديمة، وعليه فنقول: إن تسمية هذا النوع من العمل تقنيناً هو الذي أدخل اللبس على الناس، وإلا فهو يعني عنصرة الفقه المعاصر؛ ليمكن تنفيذه أمام القاضي بدون أن يتعب ذهنياً، فيبحث عن المسألة ويقارب ويقارن، وبدون أن يخالفه المدّعي العام أو المُحامي، أو الخصم أو أي معترض؛ لأن الأمر بين وواضح، فلا يبقى في ضمير القاضي أي شيء.
وأخيراً: أنا أتوقف عن هذه المسألة؛ لأنها في الحقيقة مهمة ويكثر فيها اللبس، والأمر إذا كان -في تقديري وقد أكون مخطئاً- في أيد أمينة، فأرجو ألا يكون فيه حرج، ومع ذلك الذين يتخوّفون، أو يتوجسون خيفة من هذا التوجه معهم الحق؛ لأنه من خلال تجاربي السابقة قد وجدنا الألم، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فأنا حينما أرى بعض الغيورين يتوجّسون خيفة من شعارات التقنين، فأنا أعذرهم، لكن ينبغي أيضاً أن يعالجوا الأمور باعتدال وحكمة.