قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: [وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة، إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد].
قوله: (والمنتسبين) أي: الذين يدّعون أنهم موحدون، وليس الأمر كذلك؛ لأن فهمهم للتوحيد مختل، وهذا غالب على الفلاسفة الإلهيين إن صح التعبير، يعني: الذين يتكلمون عن الله عز وجل، ويعترفون بوجود الله، والمتكلمون بدرجاتهم -سواء المتكلمين الغلاة، مثل: الجهمية أو من دونهم كالمعتزلة، أو من دونهم كمتكلمة الأشاعرة والماتريدية أو غيرهم من أصحاب النزعات الكلامية- كلهم يقصدون بالتوحيد: توحيد الربوبية، ويزعمون أنهم بذلك يحققون التوحيد، ويقولون: نحن أهل التوحيد، مع أنهم لا يفهمون من التوحيد إلا هذا، ولا يعني ذلك أنهم لا يعملون بمقتضى توحيد العبادة، فليس ذلك بالضرورة، فقد يكون عند كثير منهم تعبّد، لكن من حيث تقرير العقيدة تجد عنده انحرافاً، فيقصرون التوحيد على وجود الرب عز وجل ووحدانيته، بمعنى: إفراده بالربوبية والخلق والأفعال، ثم لا يعرّجون على التوحيد المطلوب من العباد، وهذا نجده حتى عند كبارهم الذين يُنسبون إلى العبادة والصلاح، فتجدهم لا يعرّجون على توحيد العبادة، وكأنه ليس مطلوباً من العباد، وهذا الذهول له أسباب كثيرة تأتي لها مناسبة في درس قادم، كما تجد كبارهم الذين ألّفوا كتباً خاصة بالتوحيد، يقررون فيها التوحيد على منهجهم، ومن ذلك: كتاب التوحيد للماتريدي، إذ إنه عمدة في تقرير منهج المتكلمين في هذا الجانب، وهو أسبق من الأشاعرة، مع أن الماتريدي معاصر للأشعري، لكنهما لم يلتقيا، والأشعري كان يعظّم توحيد الإلهية، ولم يكن منهجه موغلاً في هذا الجانب، وإن كانت عنده نزعة خفيفة، لكنه نهَج نهْج السلف في تقريره للدين، والاهتمام بتوحيد الإلهية والعبادة، أما الماتريدي فمن حيث العبادة فقد كان يؤدي العبادات، وهذا الذي أُثر عنه، وقد كان صاحب تقى وصلاح وعبادة وزهد وورع، لكنه من حيث العقيدة والتقرير النظري للدين فنجد ذلك في كتابه (التوحيد)، فقد كان لا يعوّل على توحيد الإلهية -مع أنه أسمى كتابه بـ (التوحيد) وهو مطبوع الآن- إلا إشارات تأتي عرضاً لا على سبيل الاستقلال، أما أصوله ومنهجه وطرائقه في الاستدلال فهي مركزة على توحيد الربوبية، ولذلك يقال: إن ادعاءهم بأنهم موحدون مجرد دعوى فقط تحتاج إلى دليل وبرهان.
ثم إنه ليس هناك فرق كبير بين الماتريدية والأشاعرة، إلا أن الأشاعرة أكثر معايشة لأهل السنة، ولذلك من جوانب كثيرة هم أقرب لأهل السنة، بينما أغلب أتباع أبي منصور الماتريدي من بلاد العجم، من تركيا، وجمهوريات القوقاز وبخارى وأجزاء من الهند، وأغلبهم أحناف، والأحناف أغلبهم في بلاد العجم، ولذلك قل احتكاكهم بأهل السنة الموجودين في جزيرة العرب والشام والعراق ومصر والمغرب، وأكثرية أهل السنة في هذه المناطق، وذلك بحكم القرب وبحكم اللغة العربية؛ لأن فهم اللغة العربية أقرب إلى فهم السنة وفقهها، فنجد أن الأشاعرة أقرب إلى أهل السنة في جوانب كثيرة من حيث التطبيق، أما من حيث التنظير فلا أجد بينهم فرقاً، وخاصة في الآونة الأخيرة، وفي بداية المذهبين كانت الماتريدية في القرن الرابع والخامس أكثر إيغالاً في الكلاميات، وكان الأشاعرة في القرن الرابع والخامس أكثر تورعاً، بينما في القرن السادس وما بعده اختلطت الفرقتان، ولم نستطع أن نميز بينهما إلا تمييزاً علمياً فنياً لا عقدياً، وذلك في أمور أشبه بالشكليات.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها].
تعتبر هذه نزعة فلسفية وقع فيها كثير من المتعبدة الذين عندهم نزعة كلامية، وهي نزعة ماتريدية موجودة في كثير من الديانات -هم أناس من العباد- سواء من الديانات التي حُرّفت، كعُبّاد اليهود، وعُبّاد النصارى وهم الأكثر، أو عُبّاد الديانات الأخرى، كالمجوسية والصابئة والهندوسية وغيرها، فهؤلاء عُبّادهم كثير منهم ينزعون إلى العبادة الفلسفية، والعبادة الفلسفية عندهم أمر معنوي يتعلق بربط القلب بالقوى الغيبية، وبأمور غيبية، وبعضهم يسمي من يربط قلبه به فيقول: نربط القلب بالله عز وجل، وأحياناً من خلال التعبد تحس به، ومعنى تعبّد: أن يكون قلبه متعلقاً بالغيب، وأحياناً يعبّرون بالغيب عن الل