قال رحمه الله: [فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين].
المراد بالنقيضين: الوجود والعدم، والكمال والنقص، لكنهم فعلاً وصفوه بالنقص؛ لأن الذي لا يقبل هذا الوصف كله هو المعدوم، كما يسلبونه النقيضين: الإثبات والنفي.
قال رحمه الله: [فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل؛ لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيضين، وهذا ممتنع في بداهة العقول، وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب، وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات.
وقد علم بالاضطرار أن الوجود لابد له من موجد واجب بذاته، غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجود هـ فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم.
وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم، فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن، لا فيما خرج عنه من الموجودات، وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البدهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى، فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحداً للعلوم الضروريات.
وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم، فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات.
والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات].
الشيخ في هذا الكتاب سيشير إلى تناقض هذه المقالات على جهة التفصيل، ولذلك أترك التعليق عليها الآن؛ لأن الشيخ هناك سيبين فساد هذه المقالات بالأمثلة وبالشواهد من مقالاتهم، ومما يرد على مقالاتهم أيضاً، لكن في هذا المقام يحسن الإشارة إلى أمرين: الأول: أن هذه الطوائف الثلاث -أعني: غلاة الفلاسفة والجهمية والقرامطة- والمعتزلة الذين نفوا الوجود والعدم جميعاً، أو وصفوه بالنقيضين، أو الذين وصفوه بالسلبيات فقط -يعني: بالنفي- أو الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات، كل هؤلاء يلتقون على قاسم مشترك وقاعدة مشتركة، ولذلك سيأتي رد الشيخ عليهم، سيرد على طائفة منهم ويجعل رده من الجميع على الجميع، يعني: سيلزم بعضهم بقول بعض، فيأتي لأخفهم فينقض قوله، ثم بناقض هذا القول ينقض قول من سبقوه؛ لأن كل طائفة من هؤلاء تشارك أهل السنة في بعض القواعد التي ترد بها على من هو أشد غلواً منهم، فمثلاً: المعتزلة يشاركوننا في الرد على الجهمية في بعض القواعد، وعليه فسنتخذ وسيلتهم في الرد على الفلاسفة الذين هم أشد غلواً هم والجهمية وسيلة للرد عليهم هم، ثم نأتي إلى الأشاعرة والماتريدية الذين لا يثبتون إلا سبع صفات ويردون الباقي، فسيشاركونا في الرد على المعتزلة في بعض القواعد، أو نرجع إليهم في الرد على تأويلاتهم بنفس الأسلوب الذي ردوا به على المعتزلة، وهكذا حتى لو ما يبقى إلا من يؤول صفة واحدة، فإنه سيرد على بقية الذين يؤولون بنفس الأسلوب الذي رد به على من أولوا في تأويله لهذه الصفة، وهذه قاعدة فطرية وعقلية سليمة، وسيأتي تفصيلها في الكتاب في دروس قادمة بمشيئة الله تعالى.
الثاني: أن هذه الطوائف كلها أو بعضها قد تتتلمذ على بعض، حتى وإن رد بعضهم على بعض، وكفر بعضهم بعضاً، فالواقع من الناحية التاريخية والمنهجية والعلمية، بل ومن جميع النواحي أن هذه الطوائف -من أول تأويلاً واحداً أو أول بعض الصفات أو جميع الصفات أو أنكر الصفات أو أنكر الأسماء والصفات- قد تتلمذ بعضهم على بعض، وتأثر بعضهم بالبعض الآخر، ولذلك سنجد أن الرد عليهم سهل من هذه الناحية، ومن الناحية الأخرى نستطيع أن نقول بسهولة: إنهم جميعاً وقعوا في مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، هذا الاتباع قد يكون في جزئية صغيرة، وقد يكون في قاعدة، وقد يكون في عدة قواعد، وقد يكون في قاعدة شاملة أو قواعد شاملة في الدين، فالغلاة منهم اتبعوا سنن السابقين من ضلال الأمم في قواعد شاملة، والذين ضلوا في بعض وقعوا في بعض البدع فيما وقعوا فيه، ولاشك أن من أسباب وقوعهم أنهم تأثروا بالأمم السابقة، وهذا لا يحتاج إلى مزيد تكلف، فهو أمر علمي سيأتي ذكره إن شاء الله، لكن أقول: هذه الطوائف لا يعني أن كل واحد منها مستقلة بقواعدها ومنهاجها، فقواعدهم ومناهجهم واحدة، وكل طائفة قد تتلمذت على الطائفة التي ترد عليها، وكل طائفة قد تتلمذت على الطائفة التي هي أشد منها غلواً، وهذا في جميع الفرق، وليس فقط فيما يتعلق بالتي ضلت في الأسماء والصفات.
إذاً: كل فرقة ترد على الأخرى عندها مما عند الأخرى شيء، إما على سبيل المضادة، أو مما يسمى رد