قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى (التوحيد)].
تأمل الدقة في الوصف والتأصيل: (ثم إن الجهمية) ثم قال: (من المعتزلة)؛ لأن كثيراً من الناس يفهم أن الجهمية شيء، والمعتزلة شيء وهذا صحيح من وجه، لكن المنهج واحد تجاه ما يجب لله عز وجل في ذاته وأسمائه وصفاته، وفي التطبيقات والتفاصيل يختلفون، ولذلك أصول المعتزلة هي أصول الجهمية من حيث التأصيل لا من حيث التطبيقات، ولذلك هناك أناس وقعوا في مناهج الجهمية وهم غير معتزلة، لكن قد يقول قائل: بما أن المعتزلة تنكر صفات الله عز وجل فهي إذاً جهمية.
ولذا فالتجهم هو المنهج الذي يسلك مسلك التعطيل والتأويل في أسماء الله وصفاته، وتقرير الدين بالرأي والعقل فيما يتعلق بقضايا الدين الأخرى، وتقديم العقل على النقل، أو تحكيم العقل في الشرع، وعرض النصوص على مناهج مسبقة، ثم ما وافق من هذه النصوص لمناهجهم أخذوا به، وإلا فلا، فهذا هو التجهم بمعناه العام، والجهمية قد تركت التعطيل، وسلكوا مسلك التأويل، وهذا مما جعلهم يختلفون، فتنساب أصولهم ومناهجهم بسرعة في الفرق الأخرى، وما أن انتهى القرن الثالث إلا وأغلب الفرق على مذهب الجهمية، ولا يعني ذلك أنها تخلت عن مناهجها، فإذا قلنا مثلاً: الرافضة جهمية، فيظن أنها تركت الرفض، لا، فهي رافضة وزادت عليه التجهم، وكذلك إذا قلنا: إن الخوارج المتأخرة صاروا جهمية، فيظن أنهم قد تخلوا عن مذهب الخوارج، لا، فهم لا يزالون خوارج وزادوا مذهب الجهمية؛ لأن الخوارج الأوائل لا تتكلم في الصفات إطلاقاً، فاختلطت الفرق، وما أن انتهى القرن الثالث إلا وأكثر الفرق على مذهب الجهمية، بما فيها الفرق الكلامية، كالكلابية في ذلك الوقت، بينما لم تظهر الأشاعرة في ذلك الوقت، وكذلك الماتريدية، ولذا فإنه من حيث شدة المناهج وضلالها، فإن أوسع شيء الباطنية الفلاسفة الغلاة، ثم الجهمية، ثم المعتزلة، ثم الفرق الكلامية.
ويدخل في الجهمية والمعتزلة متأخرة الرافضة، ويدخل أيضاً من باب أولى الزيدية، وأغلب متأخرة الخوارج، فهم على منهج الجهمية في هذا الجانب، أي: الجهمية الثالثة أو الدائرة الثالثة، وهي الأوسع عدداً والأضيق مذهباً، وتلك أوسع مذهباً وأضيق عدداً، فالجهمية الخالصة أوسع مناهج وأضيق عدداً، ثم تليها: الجهمية المتوسطة، وهي: المعتزلة ومن نشأ عنها مباشرة، كالرافضة والزيدية، ثم الفرق الكلامية من الأشاعرة والماتريدية.
ثم إن كل الفرق تؤول ما عدا أهل السنة والجماعة، وهناك مشبهة لكنهم ندرة، إذ ليسوا بفرقة، وقد كان التشبيه الأول في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وهو الذي كانت عليه الرافضة، فقد كانوا مجسمة مشبهة ممثلة لله، ثم مع عنف الردود عليهم وقوتها من أهل السنة ومن المعتزلة ومن جميع الفرق انتقلت المجسمة إلى مؤولة تماماً وهكذا الفرق تقلبت في القرن الثاني والثالث، لكن لا أعرف فرقة تركت أصلها إلى السنة، أو تركت أصلها إلى أصل آخر، كأن تجد المرجئة يتحولون إلى الخوارج، والخوارج يتحولون إلى مرجئة، وتجد رافضة يتحولون إلى جهمية أو إلى معتزلة، أو يحصل الاندماج بين الفرق جميعاً، فتتداخل في أصولها، كالجهمية فقد دخلت على الجميع، وبقيت كل فرقة لها خصائصها الأولى، ولم يسلم من ذلك إلا مذهب السلف، أما الفرق فما أعلم فرقة سلمت من مذهب الجهمية، حتى الطرق التي تعتبر وعاء الافتراق، مع أن بعض الناس يظن أن الطرق فرقة، والصحيح أنها وعاء لجميع المذاهب، فمثلاً: طرق الصوفية وعاء لجميع المذاهب التي خرجت عن السنة، بل إن طرق الصوفية دخلتها مذاهب الأمم المشركة والصابئية واليهودية والنصرانية والوثنية، إضافة إلى أن جميع الفرق لها طرق، حتى الخوارج وهم أبعد الناس عن الطرقية يوجد في بعض نواحيهم البعيدة في إفريقيا من دخلوا في الطرق، لكن ليس هذا من منهجهم، أي: الدخول في الطرق؛ حتى لا نظلمهم أيضاً.
قال رحمه الله تعالى: [ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى (التوحيد)، فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون: إنه مشبه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى، وقالوا: من قال: إن الله عليم قدير عزيز حكيم، فهو مشبه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الغلاة، وقالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات; لأن في كل منهما تشبيهاً له.
وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فراراً من تشبيههم -بزعمهم- له بالأحياء].
نقف عند هذا الحد، وإن شاء الله في بداية الدرس القادم نقعد لهذه المسائل، أو نختصر تقعيد الشيخ؛ لأن فيه تداخلاً ويحتاج إلى شيء من الأمثلة.
نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصبحه أجمعين.